Site icon الجهة 8 | جريدة إلكترونية جهوية مُستقلة

الوزير الأسبق الحبيب شوباني يصدر كتابه “المجتمع المدني كمحفز وجودي لكيمياء دولة الحكم الرشيد”

صدر حديثا للدكتور الحبيب الشوباني كتاب بعنوان: “المجتمع المدني كمحفز وجودي لكيمياء دولة الحكم الرشيد: في أهمية الوعي بين بالعلاقات التاريخية والمعيارية بين وظائف المجتمع المدني ومهام ترشيد أخلاق الدولة حصريا”، وهو الكتاب الأول ضمن مشروع فكري ثلاثي المستويات والأبعاد، اشتغل عليه الباحث بنَفَسٍ معرفي لمدة تزيد عن عشرين سنة.

وقد تم تتويج هذا المجهود العصامي العلمي بتسجيل ومناقشة أطروحة أكاديمية لنيل شهادة الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية من جامعة محمد الخامس بالرباط سنة 2023، حظيت من طرف لجنة المناقشة بميزة مشرف جدا مع توصية بالطبع.

المشروع الفكري موضوع الأطروحة، يسائل (أولا)، على المستوى النظري، مفهوم المجتمع المدني ويبحث في إشكالياته كما تبلورت ضمن صيرورته التاريخية والإنسانية العالمية العريقة؛ ثم يقاربه (ثانيا)، على المستوى الإجرائي العام، في سياقه الوطني في الكتاب الثاني بعنوان :”الدولة والمجتمع المدني بالمغرب: بحث في أسباب ضمور نظام الحاجات السياسية للفرد والمجتمع”؛ ويعالجه (ثالثا) وأخيرا، على المستوى الإجرائي الخاص في الكتاب الثالث بعنوان : “الجهوية الدستورية والجهويات الأخرى: الولاية التأسيسية (2021-2015( بجهة درعة تافيلالت نموذجا”.

في هذا الكتاب الأول، الصادر عن منشورات الخيام بالمضيق في 325 صفحة، يتصدى الباحث والوزير الأسبق المكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني، لمفهوم المجتمع المدني ضمن عملية حفر وتنقيب معرفي تاريخي عميق، غايته تحديد عناصر هوية “مفهوم المجتمع المدني”، لضبط وظائفه التاريخية والمعيارية كما تشكلت في سياق تراكمي لحضارات بشرية متنوعة، أهمها الحضارتين الإسلامية والغربية، وكذا تحديد مهامه التي منها استمد تاريخيا تسميته ومبرر وجوده. خلاصة ما انتهى إليه الباحث في كتابه الذي قدم له بمقدمتين: “مقدمة فلسفية” و”مقدمة في علم السياسة”، هو أن عموم دول وشعوب الجنوب تعيش في سياق تاريخي موسوم بهيمنة التحالف الامبريالي الرأسمالي الغربي المصمم على مواصلة منع هذه الشعوب من الانعتاق من سلطان عبوديات سطوته الاستعمارية، وتوجهه نحو مزيد من الإمعان في هندسة الاضطرابات والقلاقل السياسية والاقتصادية لجعلها دولا مفتوحة على كل احتمالات التحكم الخارجي والتفكك الداخلي.

و يرى الباحث، بسبب ذلك، بأن الدول والشعوب المرشحة للإفلات من هذا المصير الحتمي المأساوي، هي التي ستنجح في بناء مجتمعات مدنية مؤهل وظيفيا للمساهمة في التطور الآمن والسلمي للأنظمة السياسية نحو طور الرشد السياسي الذي يجسده الحكم الرشيد ، والذي تعكسه أخلاق الدولة حصريا في علاقتها مع المجتمع، وتحديدا في مجال صناعة القرار العمومي المطلوب انضباطه للمبادئ الخمس الأساسية للحكم الرشيد، وهي: الشفافية، والمسؤولية، والمساءلة، والمشاركة، والاستجابة لاحتياجات الناس. عن هذا التحدي يقول الكاتب “إن تحقُّق الدولة من مقومات وخصائص الحكم الرشيد يُحفز أفراد المجتمع على التحقق من مقتضيات المواطنة الرشيدة، ويقود لإقامة مجتمع الحكم الرشيد الموسوم بتبادل الاعتماد بين الدولة والمجتمع لحماية بعضهما البعض من مخاطر التساهل إزاء إضعاف أو مصادرة السلطة المضادة للمجال العام، أو الاستخفاف بتبعات انتهاك حق أي مواطن في التعبير الحر عن القبول أو الرفض أو التشكيك في بواعث وأهداف صناعة أي قرار عمومي تتعلق به مصائر المجتمع؛ بمعنى، أن الاهتمام بترشيد أخلاق الدولة، يشكل أُمَّ المطالب التي تكون على رأس أولويات المجتمع المدني المستوعب لوظائفه، عبر جهود التأهيل الثقافي والسياسي والمعلوماتي المحفز لكيمياء تحويل “المتفاعلات réactifs” غير المعالجة والخَطِرَة – ل”المواد الخامmatières brutes” التي يمثلها “أفرادٌ في تَجمُّع” – إلى “نَواتِج produits” متحضرة ونافعة في طور أرقى – يمثلها “مواطنون في مجتمع”- ؛ وتلك مهمة شاقة وعسيرة، وصَنْعةٌ مَدنيّة غير يسيرة، لكن المواطن الرشيد لا يَتصور نشوة الاستمتاع بوجوده المدني، أو ادعائه صدقية مشاعر حبه المشروع لذاته ولوطنه، خارج نشوة معارك تَملُّك خبراتها وأداء ضرائبها، كما لا يتصور القبول بضَنَكَ العيش برجوعه القَهْقَرى من درَجات “رُقِيِّ حياته بمشاعر المواطن”، نحو درَكات “انحطاط عيشه بهواجس الفرد”، استسلاما لضغوط الإقالة بالإكراه والإبعاد، أو استجابة لشهوة الاستقالة الطوعية والأنانية”.

أما عن مواصفات المجتمع المدني المستحق لهذا التوصيف بكونه “مجتمع المبادرات السياسية”، والمغاير ل”مجتمع المبادرات الاجتماعية” و”مجتمع المبادرات الاقتصادية”، فإن أول رئيس لمجلس جهة درعة تافيلالت في ولايته التأسيسية (2015-2021)، يؤكد على “أن المهام التي عليها مدار حركة أي “مجتمع مدني” جدير بمضمون هذا التعريف والتوصيف، وَوَفِيٌّ لضرائب هذا التصنيف والتكليف، لا يمكن تصورها خارج دائرة الاضطلاع بأداء الوظائف التاريخية والمعيارية المحدِّدة لمفهوم “المجتمع المدني” كما صاغته الإرادة البشرية، نشأة وتطورا وطلبا للكمال، في مختلف صيروراته الغنية حضاريا؛ يتعلق الأمر وجوبا بوظائف دفع ورفع الفرد في أي اجتماع سياسي لبلوغ غايته المُثلى بالانعتاق من سائر العبوديات المعطلة لإمكانه الإنساني، عبر المشاركة في كافة المناشط والمكاره الثقافية والسياسية والاقتصادية والقيمية للمجتمع، وتوجيهها نحو مطلب ترشيد أخلاق الدولة حصريا، كمحدد حاسم لإقامة مجتمع الحكم الرشيد؛ أي المجتمع الذي تُلغى فيه – بمبدأ المساواة بين الناس – تراتبيات وممارسات العبودية بالإجبار أو بالاختيار عند تدبير شؤون الاجتماع السياسي؛ (..)؛ وتلك نتيجة حتمية لمساعي بناء مجتمع المواطنة الرشيدة التي تتحقق بانتقال “الإنسان Homme” من حالة “الفردindividu ” إلى حالة “المواطن citoyen”، وانتقال “الشعب peuple/الناس Hommes” من حالة “التجمعagrégation / rassemblement ” إلى حالة التعاقد الحر التي تجسدها “الجمعية l’Association”؛ أي الحالة المجتمعية المطابقة للمفهوم التاريخي والمعياري الخالص ل “المجتمع المدني Société Civile”، والذي من أخص خصائصه وجود المواطن المُشبع بخمس معتقدات مَدَنية – من جنس وطبيعة المعتقد الديني، خاصة عندما لا تكون متفرعة عن الدين أو من مشمولاته – وهي: (أولا)، الاعتقاد بأن من مقتضيات استحقاق التمتع بأفضال المواطنة الرشيدة عدم التفريط أو التنازل،تحت أي مبرر أو تسويغ، عن حقوق وواجبات المشاركة في صناعة القرار العمومي والإصرار على التأثير فيه في ظل سيادة القانون؛و(ثانيا)، الاعتقاد بأن العمل من أجل بناء السلطة المضادة للمجال العام الحر والمحصن ضد الإقصاء واللاتواصل والازدراء، كفاح مدني مقدس تتحدد جدواه بنوع وقوة تيارات التفعيل الجماعي المتعدد – حدَّ التضارب – لمبدأ المشاركة؛ و(ثالثا)، الاعتقاد بكون المشاركة وبناء السلطة المضادة للمجال العام شرطان لازمان لدرء مخاطر القداسات والعبوديات النافية لسلطان العقل في السياسة، ومحددان صارمان لدفع مخاطر “فساد الدولة واستبدادها بمُجْتَمَع المواطنين”، المنتج حتما لمخاطر تحول المجتمع إلى “تَجَمُّع للأفراد الفاسدين والمستبدين بالدولة”،نتيجة إضعاف أو اغتيال الاستبداد والفساد لقيم المواطنة الرشيدة، ولمقومات السلطة المضادة للمجال العام”؛

وعن العلاقة التي يجب أن تنشأ بين الدولة والمجتمع المدني لربح رهان المواجهات المصيرية التي يفرضها التحالف الامبريالي الغربي الرأسمالي على الدول والشعوب لاستدامة عبوديتها له، فإن الباحث يخلص إلى ” أن الدولة الرشيدة لا تسعى لإلغاء التمايز بين سلطاتها وأدوار المجتمع المدني، بل تعتبره (التمايز) حاجة مُلِحَّة لقوة الدولة التي لا تكتمل إلا بمجتمع مدني فعال وعصري، بقوته الاقتراحية، وبعمله كسلطة مجتمعية اعتراضية ومضادة، وبأدواره التشاركية في بناء دولة القانون وصناعة القرار العمومي ومراقبة تنفيذه وتقييمه؛ بما في ذلك ممارسة الفعل الاحتجاجي القانوني لبلوغ هذه الغايات. كما أن المجتمع المدني المتحضر لا يناضل لأجل إضعاف الدولة وطمس التمايز بين سلطاتها السيادية وسلطات المجتمع المدني الاقتراحية أو الاعتراضية أو التدبيرية المؤسساتية، لأنه يعتبر الدولة القوية بوظائفها السيادية الحامية للحريات والحقوق والضامنة لسيادة القانون وللتواصل الحر في مجال عام غير إقصائي، ضرورة وجودية تمليهما المصلحة المشتركة للمجتمع والدولة على السواء؛ ولأنه يدرك أن ما لا يمكن تحقيقه مع الدولة القوية، يستحيل أن يتحقق مع دولة ضعيفة أو في وضع “اللادولة”.

يشار إلى أن الباحث خلص من مسحه الفكري والنظري لتاريخ مفهوم المجتمع المدني وتعريفاته المتعددة، إلى إنتاج تعريف جديد ومحيّن لهذا المفهوم، من أبرز مقوماته اعتبار المؤسسات المنتخبة التي تفرزها انتخابات حرة ونزيهة ومنتظمة، من مشمولات مؤسسات المجتمع المدني المطابقة لمفهومه التاريخي والمعياري، إلى جانب باقي الهيآت التي تجعل جوهر وظيفتها التأثير في صناعة القرار العمومي؛ وقد اعتمد هذا التعريف في معالجة إشكاليات الوضع الوطني والجهوي، وصياغة باقي فصول الأطروحة التي من رحمها سيتم إنتاج الكتابين الثاني والثالث.

Exit mobile version