Site icon الجهة 8 | جريدة إلكترونية جهوية مُستقلة

الدكتور الحبيب الشوباني يكتب… المقالة الختامية (25) في بيان كيف َأَجْهَزَ طوفان الأقصى استراتيجيا على “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” (5/6)


بهذه المقالة ما قبل الختامية للبحث الذي خصَّصناه لبناء سردية تاريخية مُحيَّنة للمسألة اليهودية في سياق طوفان الأقصى ، سنتعرض لبيان كيف أجهز الطوفان استراتيجيا على “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية”. يتعلق الأمر بتفكيكه للمقوم الاستراتيجي السابع الذي قام عليه بنيان المشروع الاستيطاني في فلسطين المحتلة.

  1. ثمة سؤال يفرض نفسه عند تأمل المشهد الفلسطيني المأساوي: ما هي الخطورة الاستراتيجية التي شكلتها أغلال اتفاقات “أوسلو” المكبِّلة للشعب الفلسطيني بعد عقود من الكفاح المسلح؟ وهل استطاع طوفان الأقصى كسرها لاستئناف الاشتباك التحرري على أساس وضوح قواعد الصراع الوجودي منذ ثورة البراق سنة 1929؟ للإجابة على هذا السؤال الاستراتيجي، يقتضي السياق التذكير بأنه قبل ثلاثين عامًا خلَت، اعتبر الاسرائيليون اتفاقات أوسلو – الموقعة في 13 شتنبر 1993بين “إسرائيل” ومنظمة التحرير الفلسطينية – حدثا تاريخياً يفوق في مكاسبه الاستراتيجية تاريخ إعلان قيام دولة “إسرائيل” في 14 ماي 1948؛ فيما تعتبره الغالبية الساحقة من الفلسطينيين اليوم، وبعد انصرام ثلاثين سنة، نكبةً ثانية فاقت في خسائرها الاستراتيجية نكبة 1948. وفيما يلي بيان اعتبارات كل طرف؛
  2. أولا، بالنسبة للطرف الإسرائيلي، يتأسس تقديره على تحصيل المكتسبات التسعة (9) التالية:

مُكْتَسَبُ تحويل الدولة الموعودة إلى واقع مستحيل التحقق: لأن الاعتراف بشرعيةِ الاحتلال وضمانِ أَمْنِه، أنشأ “حقَّه” في ملكيةٍ قانونيةٍ لحوالي 80% من الأرض التاريخية، مقابل وعدٍ بِمنْحه وهمَ دولةٍ على 20% المتبقية. ابتلاعُ طُعْمِ الوهمِ، بقاموس “مسلسل السلام” و”اللجنة الرباعية Quartet”، و”كبير المفاوضين”..إلخ، رسَّم تقسيمَ أراضي الدولة/السراب إلى ثلاثة مناطق: (أ)، (ب)، و(ج)؛ المنطقة (أ): (حوالي 18% وتشمل المدن الفلسطينية الكبرى باستثناء الخليل)، وتخضع للسيطرة المدنية والعسكرية الفلسطينية؛ المنطقة (ب): (حوالي 21% وتضم القرى الفلسطينية)،وتخضع مدنيا للسلطة الفلسطينية، وعسكريا ل”إسرائيل”. هذا الخداع التفاوضي مكَّن من الاستفراد ب (المنطقة ج): (حوالي 61% وتضم المجال غير المجزّأ من الأرض)، تحت سيطرة “إسرائيل” التي حولتها إلى وعاء عقاري مُسخّر لتنفيذ سياستها

[1] تقدمت إسرائيل بطلب الحصول على عضوية في الأمم المتحدة بتاريخ 15 مايو 1948، أي بعد يوم واحد من وثيقة إعلان قيامها، لكن الطلب لم يقبل من جانب مجلس الأمن.  رفض مجلس الأمن طلبا ثانيا ل”إسرائيل” في 17 ديسمبر 1948 بأغلبية 5 أصوات مقابل صوت واحد مع امتناع 5 أعضاء عن التصويت.  بعد فشل إسرائيل في طلبها الانضمام إلى الأمم المتحدة في خريف 1948، عادت وقدمت طلباً آخر في ربيع 1949. بعد التصويت (37 مع، 12 ضد، و9 ممتنع)، أصدرت الجمعية العمومية قرارها رقم 273 بتاريخ 11 مايو 1949 بقبول عضوية إسرائيل بناءً على إعلان إسرائيل بأنها «تقبل بدون تحفظ الالتزامات الواردة في ميثاق الأمم المتحدة وتتعهد بتطبيقها من اليوم الذي تصبح فيه عضواً في الأمم المتحدة» وبأنها تتعهد بتطبيق قرارا الجمعية الصادر 29 نوفمبر 1947 (قرار تقسيم فلسطين،) و11 ديسمبر 1948 (قرار حق العودة للاجئين الفلسطينيين،  وهذا ما لم يحدث لحد الآن.

[1] تقدمت إسرائيل بطلب الحصول على عضوية في الأمم المتحدة بتاريخ 15 مايو 1948، أي بعد يوم واحد من وثيقة إعلان قيامها، لكن الطلب لم يقبل من جانب مجلس الأمن.  رفض مجلس الأمن طلبا ثانيا ل”إسرائيل” في 17 ديسمبر 1948 بأغلبية 5 أصوات مقابل صوت واحد مع امتناع 5 أعضاء عن التصويت.  بعد فشل إسرائيل في طلبها الانضمام إلى الأمم المتحدة في خريف 1948، عادت وقدمت طلباً آخر في ربيع 1949. بعد التصويت (37 مع، 12 ضد، و9 ممتنع)، أصدرت الجمعية العمومية قرارها رقم 273 بتاريخ 11 مايو 1949 بقبول عضوية إسرائيل بناءً على إعلان إسرائيل بأنها «تقبل بدون تحفظ الالتزامات الواردة في ميثاق الأمم المتحدة وتتعهد بتطبيقها من اليوم الذي تصبح فيه عضواً في الأمم المتحدة» وبأنها تتعهد بتطبيق قرارا الجمعية الصادر 29 نوفمبر 1947 (قرار تقسيم فلسطين،) و11 ديسمبر 1948 (قرار حق العودة للاجئين الفلسطينيين،  وهذا ما لم يحدث لحد الآن.
  1. ثانيا، بالنسبة للطرف الفلسطيني، يتأسس تقدير الخسائر الاستراتيجية ل “أوسلو”، على الاعتبارات الأربعة (4) التالية:
  1. في بيان كيف أجهز طوفان الأقصى على اتفاقات أوسلو وحرر الشعب الفلسطيني من أغلالها: تأسيسا على ما سبق، يمكن الجزم بأن طوفان الأقصى أجهز على اتفاقات “أوسلو” إجهازا استراتيجيا، وهو ما تثبته الاعتبارات التالية:

الإجهاز الثقافي للطوفان على مرتكزات الخداع التفاوضي ل”أوسلو”: حرر الطوفان الشعب الفلسطيني من إرث وتبعات الأوهام الثلاثة التي انطلت على المفاوض الفلسطيني قبل ثلاثين سنة في “أوسلو”، وأعاد الوعي الفلسطيني العام إلى أصل طبيعته، بإدراك أنه: (أولا) لا حلول وسط مع الصهيونية، ولا مع “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” المصمَّم لابتلاع كل فلسطين؛ وأن خيار المقاومة المسلحة هو الخيار الأوحد لاسترجاع الحقوق والدفاع عن الوجود؛ و(ثانيا) أن “حل الدولتين” مجرد خديعة تفاوضية، غايتها ربح الزمن لتحقيق الانقلاب الديمغرافي بالهجرة والاستيطان والتهجير، وأن الدولة الفلسطينية الموحدة هي البديل الأوحد للتعايش بعد تفكيك نظام الفصل العنصري الرافض لأي وجود فلسطيني؛ و(ثالثا) أن الوسيط الأمريكي لا يمكن أن يكون جزءا من الحل، لأنه كان دائما جزءا من المشكلة، لاعتبارات عقائدية ومصالح هيمنية إمبريالية، وأن الرهان على حياده أو عدالته لإنصاف الشعب الفلسطيني المظلوم، رهان غير عقلاني.

الإجهاز الاستراتيجي للطوفان على مرتكزات الخداع التفاوضي ل”أوسلو”: استرجع الفلسطينيون بالطوفان الثقة في أنفسهم كشعب قادر على مواصلة حرب التحرير، رغم الظروف الصعبة التي تحيط بهم وتجعل امتلاكهم لشروط المواجهة المتكافئة مع الاحتلال معدومة تماما؛ بسبب الحصار، وتفوق المحتل ماديا بشريا وتقنيا، وانكشاف الوجود الفلسطيني دون أي سند قومي رسمي أو دولي يدعم خيار حرب التحرير، بعد إفشال الاحتلال لخيار “السلام” على عِلَّاتِه. هذه الثقة بالنفس التي ولّدها الطوفان لدى الفرد الفلسطيني المحطَّم معنويا بنتائج نهج “أوسلو”، عالجت الشرخ الذي أنتجه هذا النهج، فاسترجعت العقيدة الكفاحية-التحررية عافيتها، وأصبح خيار المقاومة المسلحة من جديد عنوان فخر واعتزاز شعبي فلسطيني، لأن الطوفان تجلى في صورة بركان متفجر بالقوة لاسترجاع الكرامة، ولأنه نفسيا غسَل بالدم “عار نهج أسلو”، وأجهزَ على المكتسبات التي تَوَهَّمَ الاحتلال أبديتها، تثبيتا لنظام فصله العنصري، وكُفراً صريحا بالوجود الفلسطيني.

الإجهاز السياسي للطوفان على مرتكزات الخداع التفاوضي ل”أوسلو”: لأن مفاوِض الطوفان الفلسطيني شَطَبَ من ذاكرة الفلسطينيين صورة المفاوِض الفلسطيني المهزوم بنهج “أسلو”. (أولا)، لأنه في الوقت الذي كان مفاوِضُ 1993 منزوعَ السلاح، فإن مفاوضَ 2023-2024 يفاوض والمقاومة تُشهر سلاحها في وجه الاحتلال الآيِس من هزيمتها واستسلامها، رغم طول المواجهة المسلحة بينهما؛ و(ثانيا)، لأنه عندما كان الفريق المفاوض قبل ثلاثين سنة مُفكَّكا بين مفاوِض رسمي في واشنطن، ومفاوِضٍ “ضِرار” في أوسلو ، يتابع الشعب الفلسطيني مفاوضي مقاومته في القاهرة والدوحة، وهم يقفون صفا متراصا، أُفقُهم التحرري واضح من بياناتهم السياسية والعسكرية، رغم أنهم من فصائلَ متباينةٍ فكريا وسياسيا؛ (ثالثا)، لأن المفاوض الفلسطيني الذي أنتجه نهج أوسلو كان يفاوض بقيادة مفككة ومغتربة في تونس، وبما تبقى من مقاومة مسلحة موزعة في بعض البلاد العربية، بعد الخروج من لبنان (1982)؛ أما مفاوض الطوفان، فيفاوض من موقع الاشتباك التحرري المسلح، المندلع شعبيا على تراب فلسطين لأول مرة في تاريخ الصراع، والمشتعل عسكريا من حولها في معارك “وحدة الساحات”، والمُستعِرٌ عالميا على أكثر من جبهة وصعيد.

الإجهاز المجتمعي للطوفان على مرتكزات الخداع التفاوضي ل”أوسلو”: لأن الطوفان جسد لحظة انفجار نفسي بالأمل لا باليأس. توحَّد الفلسطينيون شعوريا كشعب مقهور بالتشرذم الذي صنعه نهج “أوسلو”، وأمدَّهم بطاقة تَوْقٍ جديدة للتحرر من عبوديات الاحتلال. لقد عالج الطوفان بالصدمة الصاعقة حالة التمزق والشروخ المجتمعية التي تفشت في الوجود الفلسطيني منذ 1993، بل وفي الوجود العربي والإسلامي والإنساني المنحاز لمظلومية فلسطين. من لحظة انفجار الطوفان في 7 أكتوبر، انتقل الشعور بالتمزق والتشرذم من الكيانية الفلسطينية إلى الكيانية الصهيونية، لأن الأفق التحرري للطوفان جعل الحواجز النفسية تتلاشى بين فلسطينيي الضفة وقطاع غزة، واسترجع فلسطينيو الداخل (1948) شعور الاعتزاز بالانتماء الأصلي لوجودٍ فلسطينيٍّ مشترك بالدم، وقابلٍ للتحقق بالفعل المقاوم المسلح؛ وفي بلدان اللجوء والشتات، انتعش الأمل، وتجددت الحماسة للكفاح من أجل العودة للوطن المحتل. في المقابل، نشطت الهجرة المضادة في مجتمع الاستيطان الصهيوني، ونشأت حركة نزوح داخلي من شمال فلسطين وجنوبها نحو الوسط، خوفا من حرائق حرب التحرير؛ وتشرذم المجتمع الصهيوني بين علمانييه ومتدينيه، ضد صناع أكبر كارثة وجودية في تاريخ الكيان. بكلمة، إن الطوفان غيَّر تَموقُع الشك الوجودي؛ لقد فارق الشك مشاعر مجتمع المقاومة، واستوطن في مشاعر مجتمع الاستيطان.

 يتبع في المقالة الختامية 6/6 للبحث

Exit mobile version