محسن بالقسم
على الرغم من الدور الريادي الذي أدته المرأة في التحولات التي عرفتها المنطقة العربية وشمال إفريقيا، سواء على المستوى السياسي من خلال المشاركة في الحركات الاحتجاجية وصنع القرار أو على المستوى المجتمعي عبر قيادة مبادرات إصلاحية، وأيضا في المجال الإعلامي من خلال المساهمة في نقل الخبر وصناعة الرأي العام؛ فإن حضورها في البرامج الحوارية التلفزية ظل محدودا ودون مستوى حجم إسهاماتها الفعلية.
ويزداد هذا التناقض وضوحا في ظل المتغيرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الثلاث الماضية، حيث كان من المتوقع أن ينعكس هذا الحضور القوي للنساء على الشاشة عبر تمثيل أعدل وأكثر توازنا.
لقد نص دستور 2011 في فصله 19 على مبدأ المناصفة خاصة على مستوى القنوات الإعلامية العمومية، إلا أن الواقع الإعلامي المغربي لا يزال يعاني من غياب التوازن، خصوصا في البرامج ذات التأثير الجماهيري.
هيمنة الصوت الذكوري
في هذا الصدد، كشفت الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري أن نسبة تدخلات النساء في البرامج الإخبارية والحوارية العمومية لم تتجاوز 17.2% سنة 2024 من مجموع الضيوف ، في حين يهيمن الرجال على أكثر من 82.8% من تدخلات المقاعد المخصصة للنقاش، مسجلة أن الحصة النسائية على مستوى زمن التدخلات لا تتعدى 30%، لتبقى الهيمنة الذكورية طاغية على الخطاب التلفزي العمومي.
فجوة واضحة
إن البرامج الحوارية من أهم الفضاءات الحاسمة في إعادة إنتاج أو كسر الصور النمطية المرتبطة بالنوع الاجتماعي. ففي ظل تطور المجتمعات الديمقراطية، أصبح تمثيل النساء في الإعلام – خصوصا في البرامج الحوارية– مؤشرا مركزيا على مدى تحقق المساواة والمناصفة في الفضاء العمومي.
ففي سياق التحولات السياسية والاجتماعية التي يعرفها المغرب، وخاصة بعد دسترة مبدأ المساواة والمناصفة في دستور 2011، يظل تمثيل النساء في وسائل الإعلام العمومية، خصوصا في البرامج الحوارية، موضع نقاش وجدل.
رغم التحسن النسبي في تمثيل النساء داخل الإعلام المغربي، إلا أن البرامج الحوارية الكبرى لا تزال تتهم بتغييب العنصر النسوي أو اختزاله في أدوار هامشية. يطرح هذا الواقع تساؤلات حول مدى احترام هذه البرامج لمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص في الفضاء العمومي، لأنه يلامس تمثيل النساء في الفضاء العام والإعلامي، الذي يعد منبرا لتأطير الرأي العام وصناعة النقاش العمومي.
البرنامج الحواري “مباشرة معكم”، الذي يبث على القناة الثانية ، يعد من أبرز البرامج المؤثرة في النقاش العمومي بالمغرب، ويشكل نموذجا مناسبا لتحليل تمثيل النساء في البرامج الحوارية.
إقصاء غير مباشر يعكس استمرار الصور النمطية
لقد حققت المرأة المغربية عدة مكاسب في الآونة الأخيرة، إلا أن حضورها في البرامج الحوارية في التلفاز العمومي ما زال ضعيفا؛ فمن أصل إجمالي عدد المشاركين، في 78 حلقة من برنامج “مباشرة معكم”، التي شملتها الدراسة، لم تتعد نسبة مشاركة المرأة في هذه الحلقات 33 بالمائة، مقابل 45 مشاركة، للذكور.
وهذا يعكس استمرار الصور النمطية والإقصاء غير المباشر، حيث غالبا ما تستدعى النساء للحديث في قضايا اجتماعية أو حقوقية مرتبطة مباشرة بهن، بينما تستأثر الملفات السياسية والاقتصادية الكبرى بالحضور الرجالي.
هذا التفاوت يعكس استمرارا لآليات إقصاء غير مباشرة وصور نمطية راسخة، تجعل من المرأة حاضرة أساسا في الملفات الاجتماعية والحقوقية، وغائبة أو مغيبة في النقاشات السياسية والاقتصادية التي ترسم ملامح القرار العمومي، وهو ما يفرغ مفهوم المناصفة الإعلامية من محتواه، ويجعل الإعلام بعيدا عن مواكبة رهانات المساواة التي ينص عليها الدستور المغربي والتزامات المملكة الدولية.
حضور نسائي محكوم بمنطق التأثيث
حضور امرأة واحدة على الطاولة قد يفتح الباب لعشر نساء بعدي… الفاعلة الجمعوية (س.ق)، عندما تلقيت دعوة للمشاركة في برنامج مباشرة معكم، شعرت بالفخر والمسؤولية معا. كان موضوع الحلقة يتناول العنف ضد النساء، وكانت تعلم أن صوتها، بصفتها ناشطة جمعوية، يمكن أن يحمل جزء من معاناة آلاف النساء اللواتي لا يجدن منبرا للتعبير.
لكن منذ اللحظة الأولى في الأستوديو، أدركت أن المعادلة ليست سهلة. جلست على الطاولة إلى جانب أربعة رجال؛ سياسي، أستاذ جامعي، صحفي، وممثل عن وزارة. قبل أن تتم كلمتها الأولى، كان النقاش قد انطلق بوتيرة سريعة، ترك فيها المجال مفتوحا للمتدخلين الذكور كي يشرحوا ويجادلوا، وعندما أتيحت لها الكلمة، كان الوقت قصيرا جدا مقارنة بما حصلوا عليه.
أحسست أنها لا تملك إمكانية الإطالة أو التفصيل، فكل ثانية تحسب عليها. ركزت كلامها في جمل محددة وقاطعة: عن قصص النساء اللواتي تعنفن، عن غياب الحماية وعن الحاجة إلى قوانين أكثر صرامة. لكنها غادرت الأستوديو وفي داخلها شعور بالمرارة: لقد قدمت كصوت “مساند”، لا كفاعل حقيقي في صياغة النقاش.
رغم ذلك، لم تفقد الأمل، قالت لنفسها: ربما لم يكن وقتي طويلا، لكن حضوري كان رسالة، حضور امرأة واحدة على الطاولة قد يفتح الباب لعشر نساء بعدي، والرهان الحقيقي أن ننتقل من مجرد “ضيفات رمزية” إلى شريكات في صناعة النقاش العمومي.
وفي تصريح لـ الجهة 8، قالت النائبة البرلمانية (ن.م) : حينما توصلت بدعوة للمشاركة في البرنامج الحواري “مباشرة معكم”، شعرت بمزيج من الحماس والرهبة، كنت أعلم أن النقاش سيكون صريحا ومباشرا أمام جمهور واسع، وأن موضوع الحلقة – المساواة بين النساء والرجال – ملف حساس أشتغل عليه داخل البرلمان منذ سنوات.
قبل الحلقة، أعددت نفسي جيدا وجمعت الأرقام الرسمية وتقارير البرلمان وملاحظات الجمعيات التي تواصلت معنا في هذا المجال. لم أكن أريد أن أظهر فقط كصوت سياسي، بل كابنة لهذا الوطن تحمل هموم نسائه اللواتي يواجهن صعوبات في التعليم والعمل والتمثيلية السياسية.
داخل الأستوديو، واجهت أسئلة دقيقة من مقدم البرنامج، وأحيانا مقاطعات حادة من بعض الضيوف. لكنني تمسكت بالهدوء، وأكدت أن المساواة ليست شعارا انتخابيا بل حق دستوري صريح يجب تفعيله.
لم يكن الأمر سهلا، لأنني واجهت أيضا أصواتا محافظة تعتبر أن المطالبة بحقوق النساء ترف أو فكرة مستوردة، أجبتهم بأن الدستور والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب أكبر رد على هذا الطرح.
بعد انتهاء الحلقة، فوجئت بسيل من الرسائل من شابات قلن لي إنهن شعرن بالفخر لرؤية امرأة برلمانية تدافع عن قضاياهن في منبر وطني. بالنسبة لي، كانت تلك الرسائل أكبر مكسب: أن أشعر أن صوتي وصل، وأنني لم أتكلم فقط بصفتي برلمانية، بل بصفتي امرأة تحمل هموم النساء المغربيات.
وللوقوف على أسباب الوضعية الحالية للنساء في البرامج التلفازية الحوارية والتعرف على الخلفيات المؤثرة في نوعية حضور المرأة في الإعلام، إن سلبا أو إيجابا، ودور العنصر البشري وعلاقته بالكفاءة والنوع، ودور رئاسة التحرير وإدارة البرنامج، ودور التكوين والتدريب المتعلقان بالمعرفة بقضايا المرأة، ودور القوانين ودفاتر التحملات، أوضح معد البرنامج، في رده على سؤال يتعلق بدور رئاسة التحرير وإدارة البرنامج في اختيار ضيوف البرنامج وكيف يتم تدبير عنصري الكفاءة والنوع في الانتقاء، أن انتقاء الضيوف يتم بناء على معايير ضبط الملفات موضوع النقاش، كما يؤخذ بعين الاعتبار معيار المرور بشكل جيد في البرامج الحوارية التلفازية المباشرة، إضافة إلى معايير أخرى، مثل إشراك النساء والشباب والوجوه غير المستهلكة إعلاميا.
وانسجاما مع ذلك، أضاف المتحدث نفسه أن الأحزاب مسؤولة عن ضعف حضور المرأة في البرامج التي تناقش المواضيع السياسية، باعتبارها هي التي تقترح أسماء المشاركين على معدي البرنامج، كما أكد أنه نادرا ما تستجيب الهيئات السياسية عندما يطلب منها انتداب من يمثلها في البرنامج للمعايير التي يضعها معدو البرنامج، ففي حالة توجيه دعوات إلى منظمات ووزارات وهيئات لانتداب من يمثلهم، غالبا ما تؤخذ بعين الاعتبار معايير الولاءات السياسية والاصطفافات من طرف الهيآت.
إن إصلاح هذا الخلل يتطلب إرادة مؤسساتية واضحة، تبدأ من اعتماد معايير صارمة في انتقاء الضيوف لضمان التوازن بين الجنسين، مرورا بتوسيع دائرة استدعاء الخبيرات والفاعلات في مختلف المجالات، وصولا إلى إعادة النظر في أسلوب إدارة الحوار بما يمنح المرأة مساحة زمنية ومضمونية منصفة. فبدون حضور متوازن وفاعل للنساء على الشاشة، سيظل الإعلام العمومي يعكس نصف الحقيقة، ويقصي نصف المجتمع.
وبهدف تعزيز تمثيل النساء في البرامج الحوارية عبر القنوات الإعلامية المغربية، لابد من خطوات إيجابية لارساء حضور وازن يغطي عن فجوة عميقة تحتاج إلى إصلاحات جذرية لضمان مشاركة منصفة، باعتبارها جزء من الحق في التعبير والديمقراطية التشاركية، من أجل تحقيق المساواة الإعلامية وإغناء النقاش العمومي بالمغرب، نبرزها في التوصيات التالية:
- التخطيط والإعداد المسبق وذلك بجمع أكبر قاعدة بيانات وطنية: بشراكة مع الجامعات، البرلمان، المجتمع المدني، تضم خبيرات في جميع المجالات اقتصاد، صحة، قانون، دبلوماسية، بيئة .. – التوازن في اختيار المواضيع وتجنب حصر النساء في ملفات اجتماعية أو أسرية فقط، وإشراكهن في النقاشات الكبرى: المالية الأمن، التكنولوجيات الحديثة، العلاقات الدولية. – تحديد سقف أدنى مؤشرات التمثيلية (50%) مثلا لحضور النساء، على غرار الممارسات الفضلي في بعض القنوات الدولية.
- إدارة النقاش أثناء البث من خلال إجراءات لضمان التوازن، إذ وجب على المنشط التدخل لمنع تهميش الضيفات أو مقاطعتهن المستمرة. – العدالة البصرية بضمان توزيع منصف للكاميرا وزوايا التصوير وعدم التركيز على ضيف دون آخر. – تجنب لغة خالية من التمييز والعبارات التي تقلل من الكفاءة أو تحصر المرأة في أدوار نعطية. – منح مساحة للتحليل و تخصيص وقت كاف لتقديم مواقف معمقة بدل تعليقات سطحية.
- المتابعة والتقييم في إلزام القنوات التي تسجل عليها نسب ضعيفة من حضور النساء بوضع خطة عمل لتحسين التمثيلية. – إشراك الجمعيات النسائية في رصد التمثيلية الإعلامية وتقديم توصيات. – مؤشرات كمية ونوعية: لا يكفي قياس عدد الضيفات بل يجب تقييم مستوى التفاعل، ونوعية الأدوار الممنوحة لهن خبيرة، محللة، أم مجرد تعليق ثانوي.
- الإطار التنظيمي والمؤسساتي وذلك بإنشاء مدونة سلوك إعلامية تتبناها القنوات وتلزم بتمثيلية عادلة للنساء. – إدماج مقاربة النوع في دفاتر التحملات، بحيث تعتبر التمثيلية النسائية من شروط تقييم أداء القنوات العمومية والخاصة. – تشجيع المنافسة الإيجابية بين القنوات عبر جوائز سنوية أو اعتراف مؤسساتي للقنوات التي تحقق أعلى نسب إنصاف في حضور النساء. – إشراك الضيفات في مواضيع تقنية أو اقتصادية كبرى، وعدم حصرهن في القضايا الاجتماعية.
- البعد الثقافي والتوعوي عبر حملات تحسيسية لتغيير الصورة النمطية عن النساء في الإعلام. – تكوين الصحافيين والصحافيات في مجال المساواة الجندرية لتفادي الصور النمطية. – التوازن الجهوي والحرص على استدعاء نساء من مختلف جهات المغرب، وليس فقط من المناطق الكبرى (الهامش والمركز).
- الاستفادة من التجارب الدولية، فمثلا الـBBC: لديها قاعدة بيانات “Expert Women” تربط مقدمي البرامج الحوارية بخبيرات في مختلف المجالات. – قناة ARTE الفرنسية – الألمانية تعتمد على لجنة مراقبة داخلية لتتبع التمثيلية النسائية. – كندا ألزمت مؤسسات الإعلام العمومي ببلوغ نسبة 50% من الحضور النسائي في البرامج بحلول
جدير بالذكر أن المادة 10 من قرار المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري رقم 20-18، المتعلق بضمان التعبير التعددي لتيارات الرأي والفكر في خدمات الاتصال السمعي البصري خارج الفترات الانتخابية والاستفتاءات، تنص على التزام متعهدي الاتصال السمعي البصري بالسعي إلى تحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء في البرامج الإخبارية.