Site icon الجهة 8 | جريدة إلكترونية جهوية مُستقلة

بين الخبر والإثارة والضمير: الإعلام المغربي في قضايا العنف ضد النساء

أسامة باجي

في شوارع المدن المغربية وقرى الأطراف، تتردد أصوات كثيرة عن العنف الذي تمارسه تجاه النساء، قصص تُروى بصمت أو تُختصر في خبر عاجل. وراء كل حالة اعتداء أو تحرش هناك حياة توقفت، وآمال مُهدرة، وحاجة ماسّة لفهم أعمق لما يجري. الإعلام، بوصفه نافذة المجتمع على الواقع، يتحمل مسؤولية مزدوجة: أن يفضح الظاهرة ويكشف المعتدين، وفي الوقت نفسه أن يخلق مساحة للوعي والدعم، لا مجرد الإثارة أو الصدمة. لكن السؤال الكبير يبقى: هل استطاع الإعلام المغربي أن يكون هذه النافذة الحقيقية، أم أنه يكرر الصور النمطية ويعيد إنتاج الصمت حول معاناة النساء؟

وسطَ هذا الواقع المتشابك، تظهر الحاجة إلى مناقشة دور الإعلام المغربي في معالجة العنف ضد النساء ليس كخيار أكاديمي فحسب، بل كضرورة مجتمعية عاجلة. فالإعلام ليس مجرد ناقل للوقائع، بل مرآة تعكس المجتمع وتوجه الرأي العام، وقد يكون أداة لتغيير التصورات السائدة وكسر صمت طويل طال معاناة الضحايا. من هنا تنبع أهمية الكتابة حول هذا الموضوع: لتسليط الضوء على الثغرات، وتحليل كيفية مساهمة الإعلام في تعزيز الوعي أو، للأسف أحياناً، إعادة إنتاج الصور النمطية للمرأة الضحية.

غير أن الطريق نحو تغطية إعلامية فعالة مليء بالتحديات. كثير من المواد الصحفية تبقى سطحية، تكتفي بسرد الوقائع دون تقديم سياق اجتماعي أو إنساني يوضح أسباب العنف وتبعاته. وفي المقابل، يغلب على بعض التغطيات منطق الإثارة، حيث تتحول قصص الاعتداء إلى مادة صادمة تلفت الانتباه، لكنها لا تقدم للضحايا دعماً حقيقياً أو أدوات لفهم المجتمع للظاهرة. كما يواجه الإعلام نقصاً حاداً في المصادر الموثوقة، سواء من شهادات نسائية مباشرة أو إحصاءات دقيقة من مؤسسات المجتمع المدني، بالإضافة إلى ضعف التواصل مع الجهات القانونية والاجتماعية والنفسية.

هذه الإشكالات تجعل من مهمة الصحفي أكثر تعقيداً، إذ يتطلب الأمر موازنة دقيقة بين كشف الحقيقة، احترام كرامة الضحايا، وإنتاج محتوى يعكس الواقع الاجتماعي والقانوني بدقة ومصداقية.

أصوات غائبة: لماذا تغيب قضايا النساء عن اهتمام الإعلام؟

سلمى الحراق، صحفية وباحثة في الإعلام والتواصل في حديثها عن صورة الإعلام المغربي وتناوله لقضايا النساء المعنّفات، ترى، أن التغطية الإعلامية لهذه القضايا لا تحظى بالأهمية الكافية.

توضح الحراق قائلة: “تغطية الإعلام المغربي لقضايا النساء المعنّفات لا تحظى بالأهمية الكافية، فمثل هذه القضايا تظهر نادراً وتبقى التغطية سطحية وموسمية، تركز غالباً على سرد الوقائع دون تحليل معمّق أو تقديم سياق اجتماعي وإنساني يبرز خطورة الظاهرة. مع ذلك، اللغة التي يستخدمها الإعلام في هذه التغطية جيدة وواضحة، لكنها وحدها لا تكفي لجعل الموضوع يحظى بالاهتمام الذي يستحقه”.

وتضيف الحراق أن منطق الإثارة كثيراً ما يطغى على منطق الدعم والتوعية، إذ تقول: “في كثير من الأحيان، يغلب على تغطية الإعلام المغربي لقضايا النساء المعنّفات منطق الإثارة أكثر من منطق الدعم والتوعية. تركز بعض الوسائل على الجانب الصادم أو المثير للانتباه من الحوادث، دون تقديم محتوى يساهم في التوعية، تحليل الظاهرة، أو دعم الضحايا والمجتمع للتعامل مع هذه القضايا بشكل إيجابي وبناء.”

وبحسبها، فإن هذا النهج ينعكس على صورة الضحايا في المجتمع. وتشرح: “الخطاب الإعلامي الحالي يؤثر بشكل محدود على صورة ضحايا العنف وقضايا النوع الاجتماعي والجندر، إذ أن التغطية النادرة والسطحية لا تسهم في تعزيز فهم المجتمع لهذه القضايا أو في تغيير التصورات النمطية السائدة. في كثير من الأحيان، يبقى الرأي العام معرضاً لتشكيلات مبسطة أو مشوهة للظاهرة، مما يقلل من التعاطف والدعم للضحايا ويحد من النقاش المجتمعي الجاد حول العنف والنوع الاجتماعي.”

وترى الحراق أن الإعلاميين يواجهون تحديات أخلاقية ومهنية بالغة الدقة في هذا المجال، موضحة: “أبرز التحديات التي تواجه الإعلاميين عند تناول قضايا النساء المعنّفات تتمثل في القضايا الأخلاقية والمآزق المهنية. على الإعلامي أن يوازن بين نقل الخبر بصدق وشفافية من جهة، وحماية خصوصية الضحايا وكرامتهم من جهة أخرى. كما يواجه تحديات مرتبطة بتجنب الإثارة المبالغ فيها أو اللغة الحساسة التي قد تؤذي الضحايا أو تشوّه الصورة العامة للظاهرة، ما يجعل تغطية هذه القضايا أمراً دقيقاً وحساساً للغاية.”

وتقترح الحراق أن يصبح الإعلام أداة لمناهضة العنف، لا وسيلة لإعادة إنتاجه، مؤكدة: “لجعل الإعلام أداة فعالة لمناهضة العنف بدل إعادة إنتاجه، يجب أن يركز على التوعية والتحليل العميق للظاهرة، مع إعطاء صوت للضحايا بطريقة تحمي كرامتهم وخصوصيتهم. كما ينبغي تدريب الإعلاميين على التعامل مع هذه القضايا بحساسية، واعتماد لغة دقيقة ومحايدة، وتقديم سياق اجتماعي وثقافي يساعد الجمهور على فهم الأسباب والحلول الممكنة.

واختتمت بتوصيات عملية من أجل ممارسة إعلامية فضلى، تقول فيها: “من توصياتي لممارسة إعلامية فضلى: تعزيز التغطية المستمرة لقضايا العنف ضد النساء، دمج برامج توعوية وتحليلية، التعاون مع منظمات المجتمع المدني والخبراء في المجال، والحرص على الموازنة بين جذب الانتباه ونقل الحقيقة دون إثارة مفرطة أو تحقير للضحايا”.

التكوين والمسؤولية: حلقات مفقودة

بشرى عبده، فاعلة حقوقية ومديرة تنفيذية لجمعية التحدي للمساواة والمواطنة ترى أن المشهد الإعلامي المغربي في تعاطيه مع قضايا العنف ضد النساء يتأرجح بين إعلام جاد وآخر يبحث عن الإثارة. فالإعلام الجاد – كما تقول – هو الذي يتناول هذه القضايا بوعي ومسؤولية، من أجل التوعية والدعم وكشف المعتدين والظاهرة في عمقها، مع ممارسة دور الترافع والضغط على الجهات المسؤولة من أجل التدخل. أما الإعلام الباحث عن الإثارة، فيكتفي غالباً بتناول موضوعات الاغتصاب أو التحرش بشكل سطحي، بعيداً عن الجدية المطلوبة لمناصرة النساء المعنّفات.

تضيف المتحدثة أن من أبرز التحديات التي تواجه الإعلاميين غياب الشهادات المباشرة أو ضعف الإحصائيات والمعطيات الدقيقة، فضلاً عن صعوبة تواصل بعض المؤسسات أو الجمعيات النسائية مع الصحافة. كل هذا يجعل الصحفي، رغم رغبته في فضح الظاهرة وتسليط الضوء عليها، يصطدم بعراقيل تحدّ من قدرته على إنتاج مادة جادة وهادفة تخدم قضايا النساء.

وفي هذا السياق، تؤكد عبده أن الإعلام المغربي مدعو أكثر من أي وقت مضى إلى التكوين والتكوين المستمر، من أجل تنوير الرأي العام بمضامين دقيقة ومهنية. وتشدد على أن الصحفي مطالب بأن يكون ملماً بالجوانب القانونية والنفسية والاجتماعية المرتبطة بالموضوع، وأن يقترب أكثر من المجتمع المدني، مراكز الاستماع، المساعدات الاجتماعيات، المحامين، والأخصائيين النفسيين، حتى يكون على دراية تامة بالواقع الميداني. كما تلفت إلى أهمية مواكبة المستجدات القانونية، مثل العقوبات البديلة، وقانون 103.13، والمقترحات الجديدة المتعلقة بالقانون الجنائي والمسطرة الجنائية، إضافة إلى ضرورة التتبع الدقيق لمظاهر العنف الرقمي والأفعال المستجدة المرتبطة به.

وترى أن الإعلام المغربي لعب دوراً أساسياً في كسر جدار الصمت حول العنف الممارس ضد النساء، وفي تعرية الواقع الذي تعيشه الضحايا. فهو، بحسبها، ليس مجرد ناقل للخبر، بل سلطة اجتماعية تضطلع بدور الترافع لدى مؤسسات الدولة من أجل الحماية والتغيير. وقد ساهم الإعلام في إبراز أصوات الضحايا عبر الشهادات الحية، والتغطيات الميدانية، والروبورتاجات والفيديوهات، مع تعزيز المواد الصحفية بمعطيات دقيقة وإحصائيات عملت عليها الجمعيات والمؤسسات. وتشدد في ختام تصريحها على أن تطور تناول الإعلام لهذه القضايا، من مجرد الإثارة إلى تعزيز المقالات بفصول قانونية ومقاربات مهنية، يمثل خطوة مهمة نحو مناهضة العنف ضد النساء في المغرب.

تشير التصريحات التي أدلت بها كل من سلمى الحراق وبشرى عبده إلى الدور الحاسم الذي يلعبه الإعلام المغربي في قضايا العنف ضد النساء. كلا التصريحين يسلطان الضوء على التباين في مقاربات وسائل الإعلام، بين الإعلام الجاد الذي يسعى للتوعية والدعم وكشف المعتدين، والإعلام المبالغ في الإثارة الذي يفتقر للجدية والمسؤولية المهنية.

كما تؤكد كلتا الفاعلتين الحقوقيتين على العراقيل التي تواجه الصحفيين، من نقص الشهادات والإحصائيات إلى ضعف تجاوب المؤسسات والمجتمع المدني، مما يحد من قدرة الإعلام على تقديم مادة دقيقة وهادفة تعكس الواقع الاجتماعي والقانوني للضحايا.

تأثيرات الهيمنة الذكورية على الخطاب الإعلامي: قراءة نقدية لتغطية العنف ضد النساء

بحسب العزوزي، لا يزال المُجتمع يعاني ضعفاً في تغطيته لقضايا النساء المعنفات، سواء من حيث المضمون أو اللغة المستخدمة، حيث غالباً ما يتم تصوير المرأة كضحية عاجزة عن المقاومة، ويعتمد الخطاب الإعلامي على مفاهيم تبرر العنف في إطار الهيمنة الذكورية المستمرة، مما يستدعي تطوير الخطاب واحترام مكانة المرأة بشكل أوسع.

ويشير العزوزي إلى أن كثيراً من التغطيات الإعلامية تركز على الإثارة والدراما والمأساوية، مستغلة معاناة النساء بدلاً من تقديم محتوى توعوي يعزز الفهم والوقاية. هذا النهج، كما يقول، يقلل من فرص بناء وعي مجتمعي حقيقي ولا يساهم في تقديم حلول عملية للضحايا، ما يجعل من الضروري إعادة صياغة خطاب الإعلاميين ليصبح أداة فعالة للدعم والتغيير الاجتماعي، لا مجرد مرآة للوضع القائم.

ويضيف العزوزي أن الإعلام المغربي يعزز أحياناً الصور النمطية السلبية للضحايا، مما يقلل من فاعليته في تحفيز التعاطف العام ويؤخر التغيير الاجتماعي المنشود. ويحدد خمسة تحديات أساسية أمام الصحافة: أولاً، مواجهة الأعراف الذكورية السائدة في المجتمع. ثانياً، غياب الصحافة المتخصصة في قضايا النوع الاجتماعي والحاجة إلى تكثيف التكوين المهني للصحفيين. ثالثاً، تجنب لغة الإثارة واعتماد المهنية والموضوعية في الكتابة. رابعاً، نقص المصادر النسائية الموثوقة. وخامساً، ضرورة التوازن بين الضغوط الاقتصادية للمؤسسات الإعلامية وعمق المحتوى المهني والإنساني، لضمان تقديم تغطية متوازنة وواعية لقضايا العنف ضد النساء.

ويختتم العزوزي تصريحه بالتأكيد على ضرورة تفعيل مجموعة من الإجراءات لتعزيز دور الإعلام في مناهضة العنف ضد النساء. فمن الضروري تكثيف برامج التكوين المستمر للصحفيين، مع التركيز على الجوانب القانونية والنفسية والاجتماعية المرتبطة بالنوع الاجتماعي، ومواكبة المستجدات مثل العنف الرقمي والقوانين الجديدة. كما يشدد على اعتماد خطاب إعلامي مهني وموضوعي يبتعد عن الإثارة والدراما، ويعطي مساحة للضحايا للتعبير عن أنفسهن، مع تعزيز المصادر النسائية والتنسيق الوثيق مع جمعيات المجتمع المدني والمختصين القانونيين والنفسيين لضمان تغطية دقيقة وموثوقة.

ويرى المتحدث أن إنشاء صحافة متخصصة في قضايا النوع الاجتماعي يعد ضرورة لتقديم محتوى توعوي وتحليلي يساهم في بناء وعي مجتمعي حقيقي، مع إيجاد توازن بين الضغوط الاقتصادية للمؤسسات الإعلامية والعمق المهني والإنساني للمادة الإعلامية.

بين التوعية وإعادة الإنتاج: منعرجات ومنزلقات

الإعلام المغربي يواجه تحدياً حقيقياً في تغطيته لقضايا العنف ضد النساء، فبينما يمكن أن يكون وسيلة للتوعية والدعم وكشف المعتدين، غالباً ما يتحول إلى مساحة لإعادة إنتاج الصور النمطية والممارسات الذكورية السائدة. كثير من التغطيات لا تتعدى سرد الوقائع، دون تقديم تحليلات عميقة أو سياق اجتماعي وإنساني يوضح خطورة الظاهرة وأبعادها، ما يحد من قدرة الجمهور على فهم الظاهرة بشكل شامل ويضعف التعاطف مع الضحايا.

علاوة على ذلك، يتعرض الإعلام لضغط الجمع بين جذب الانتباه والحفاظ على المهنية والموضوعية، مما يؤدي أحياناً إلى الإفراط في الإثارة والتركيز على الجانب الصادم من الحوادث، بدل التركيز على الدعم والتوعية والوقاية. هذه المعادلة الصعبة تجعل من إنتاج مادة إعلامية جادة وهادفة تحدياً مستمراً، إذ يتطلب موازنة دقيقة بين احترام كرامة الضحايا وتقديم معلومات دقيقة تسهم في فضح الظاهرة وتغيير التصورات المجتمعية الخاطئة.

كما أن نقص المصادر الموثوقة وضعف التواصل مع المجتمع المدني والجمعيات النسائية يعرقل عملية جمع المعلومات الدقيقة وإعداد تقارير تحليلية متكاملة. ولضمان تغطية شاملة، ينبغي للإعلام أن يكون أكثر قرباً من الواقع الميداني، وأن يستفيد من شهادات الضحايا، وملاحظات الخبراء القانونيين والاجتماعيين والنفسيين، ليقدم محتوى يوازن بين الجانب القانوني والاجتماعي والنفسي للموضوع.

في النهاية، يمكن القول إن الإعلام المغربي لديه القدرة على لعب دور أساسي في مناهضة العنف ضد النساء، لكنه يحتاج إلى تطوير مستمر في التكوين المهني، اعتماد لغة موضوعية ومحايدة، تعزيز المصادر النسائية، وخلق مساحة صحفية متخصصة في قضايا النوع الاجتماعي. هذا التوجه سيُمكّن الإعلام من أن يصبح أداة للتغيير الاجتماعي، وداعمًا حقيقيًا للضحايا، بدل أن يكون مجرد ناقل للأحداث أو مساحة للإثارة الصادمة.

 

Exit mobile version