ربورطاج التشرد بالرشيدية ظاهرة تستفحل…وتقاعس واضح للمنتخبين

أنجزه محمد حميدي ويوسف الكوش
لطالما اشتهرت منطقة الجنوب الشرقي، بخصال أهلها، المغرقين في عزة النفس، و دماثة الأخلاق، ورحابة الباع. تلك صورة سوقها الإعلام، وترسخت في أذهان المغاربة، وانتشت بها الساكنة. أي نعم، هي تملك جانبا كبيرا من الصحة، لكنها تخفي الكثير مما تعانيه ساكنة المنطقة، وأنينها تحت وطأة جملة من الظواهر التي صارت وتأثيراتها الوخيمة تستفحلان يوما بعد يوم.
ظاهرة التشرد ليست بشاذة عن هذه الظواهر. فأعداد المتشردين بالمنطقة تتكاثر كالفطر، حتى صارت تعد بالعشرات في أقاليم لوحدها كإقليم الرشيدية ،الذي كان حتى عهد قريب لا يتضمن إلا حالات معدودة على رؤوس الأصابع.
ومع كل فصل شتاء يقضي عدد منهم نحبه بفعل الإنخفاض الكبير في درجات الحرارة الذي تعرفه المنطقة في هذه الفترة من السنة. فضلا عن ما يطرح من إشكاليات متعلقة بحماية هذه الفئة، الأطفال منها خصوصا.
نفاذ ما في داخل “الجعيبة” من التحمل
هو ابن مدينة الرشيدية، عاصمة الجهة الثامنة، التي ما انفكت تتبوأ المراتب الأولى بين الجهات، التي تكاد تغيب فيها العديد من شروط العيش الكريم، خاصة حين الحديث عن فئته؛ فئة المتشردين.
“الجعبة” أو “الجعيبة” كما يحلو لبعض الساكنة الرشداوية تسميته، بنية المزاح أحيانا، و في أحايين كثيرة، بنية إظهار نوع من الحميمية والشعور بالألفة اتجاهه، من أشهر المتشردين الذين لا يكادون يمحون من ذاكرة أي رشداوي عارف حق المعرفة بالمدينة وأهلها.

ببطانيته الممزقة التي لاتفارق كتفه، ظل “الجعيبة” لسنوات صابرا متحملا ما يلازم التشرد من مخاطر ومعاناة، ولربما كان تعايشه مع الساكنة وتعايشها معه المحفز في تحمله، خاصة وأنها لفرط محبتها له وتعامله المسالم معها، ما فتئت تمده بما تيسر من نقود أو وجبات غذائية.
معاناته من البرد القارس والجوع، غياب نقص الرعاية الصحية، سيلخصها حين قال لقاضي المحكمة، الذي أدانه بشهر حبسا، بعدما ضبط في حالة سكر علني، ” زيدني شهرأخر قتلني البرد”.
كلمات “الجعيبة ” التي تختزل ضروبا من المعاناة والمأساة، وقعت كالصاعقة على قلوب العديد من ساكنة الرشيدية ممن يعرفون الرجل، بل جعلتهم يطرحون تساؤلات، استنكارية لا تنتظر جوابا أحيانا، وأخرى على عكسها، يعيش طارحوها على أمل أن يجدوا جوابا لها، قد يحل جزءا يسيرا من معاناة هذه الفئة، ومجمل هذه التساؤلات تحاول معرفة من المسؤول عن هضم حقوقها، في بيئة تكاد تهضم فيها حقوق الكل أصلا .
تقاعس واضح للمنتخبين…والمجتمع المدني ملزم بالتحسيس
“المتشرد هو إنسان قبل كل شيء” مسلمة ينطلق منها الفاعل الجمعوي والنقابي بالرشيدية عزيز أملال ، ليؤكد على أن مسؤولية الحفاظ على الحد الأدنى من كرامة المتشرد وضمان حقه في الحياة، تقع على عاتق الدولة، والدولة في هذه الحالة منتخبو الجهة والمسؤولون على القطاعات الإدارية والإجتماعية. وهم ملزمون تبعا لهذه المسؤولية حسب أملال ، بأن يوفروا لجميع المتشردين مكانا يقيهم من البرد والجوع ويحمي أجسادهم وعقولهم ويحميهم من الظلم والتعسفات والاعتداءات.
حالة “الجعيبة” ،أو استمرار ظاهرة المتشردين عموما، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك حسب أملال ، أن هناك “تقصيرا كبيرا” من طرف السلطات في القيام بمهامها، في حماية هذه الفئة من المواطنين، وأن هذا المجتمع الذي شاعت عنه قيم المحافظة، يطغى عليه هو الأخر “الظلم” و”يعتدي فيه القوي على الضعيف”.

وإذا كان على الدولة أن تعمل توفير فضاءات لتجميع المشردين وتوفر لهم المسكن والطعام والتعليم والمواكبة الصحية والحماية الاجتماعية، فإن المجتمع المدني بدوره، حسب أملال، يجب أن يقوم بالتحسيس بغية بناء مجتمع متضامن، خصوصا مع فئات المتشردين المحتاجة لحملات انسانية وتقاسم الملابس والغذاء، بما يمكن المتشرد من الإحساس ” أنه ليس غريبا في وطنه وأن المجتمع لم يتنكر له لأسباب دفعته للتشرد والمعاناة”.
الغربة في الوطن، ربما لم يعاني منها “الجعيبة” قيد حياته، بيد أن العديد من متشردي المدينة يعانون منها، وهو ما يثير مخاوف كثيرين من أن تدفعهم إلى فقدان الثقة في المحيط، وما يتلو ذلك من حوادث ومشاكل مستعصية.
التشرد وتهديد الأمن العام
في حديثه مع “الجهة8″، دفع أملال بأن مسألة التشرد، لا تنعكس على المتشردين، فحسب، بل على عامة الساكنة، ذلك أنه أحيانا نجد متشردين “مرضى نفسيا أو عقليا لظروف مختلفة بسبب التضييق في العمل، أو الأزمات المالية الخانقة، أو العلاقات الأسرية المتشنجة ، والتعاطي للمخدرات، وغيرها من الأمور التي قد تتسبب في تحول شخص عادي إلى مشرد” ، وبسبب نظرتهم للمجتمع الذي لم تعد لهم فيه ثقة أو يعتبرونه مصدرا لمشاكلهم أو قد يهدد وجودهم ” قد يلجؤون إلى القيام ب”أعمال تهدد الأمن العام ومصالح الناس، والقانون يحمل المسؤولية التقصيرية لمن تجب عليه رعاية المختل أو المجنون أو القاصر سواء الوالدين أو الاخوة أو الأزواج”
والمشكلة الأكبر في هذا الجانب أنه ” يصعب أحيانا القيام بمتابعة هؤلاء، نظرا لعدة ظروف كالعمل أو قلة ذات اليد” مما يستدعي نظرة شاملة للموضوع وضرورة مساعدة الأسر على الأقل للتحكم في أعمال من هم تحت سلطتهم من المتشردين.
الأطفال الحلقة الأضعف في فئات المتشردين:
الأطفال المتشردون الفئة الأكثر تضررا من فئات المتشردين، وهي الأخرى تتوسع بمدينة الرشيدية. سياق هذا التوسع، لا ينفك عن جملة من الأسباب التي تنسحب على كافة المدن المغربية، في مقدمتها هشاشة بنية العائلة وقيم العائلة بسبب الفقر والاقصاء الاجتماعيين، التي تفقد العائلات فقدا القدرة على التكفل بالأطفال ماديا ومعنويا، ما قد يؤدي إلى تعنيفهم “مما يؤدي إلى انفراط عقد الآصرة العائلية وإلى تشرد الأطفال” بحسب أحمد بوزيان، أستاذ علم الاجتماع، المختص في علم اجتماع الطفولة.
بحسب الأستاذ في ذاته، فإن هذه الظاهرة بدأت تنتشر أيضا في هذه المدينة، وبجهة درعة تافيلالت عموما، المعروفة بمتانة العلاقات الإجتماعية فيها، بيد أنه يعتقد بأن الأمر قد يكون متعلقا بأطفال مهاجرين من مناطق أخرى”.

“لكن إذا تأكد أن هؤلاء الأطفال المتشردين، هم من عائلات تقطن بنفس المدن التي ينحدرون منها وأن هذه العائلات تأقلمت مع وجود أبنائها في الشارع” فذلك وفقا لبوزيان” مؤشر على تحول سلبي مثير في المجتمع الواحي بالجنوب الشرقي”.
مسألة التضامن التي طرحها الفاعل الجمعوي والنقابي عزيز أملال، يرجع إليها أيضا الأستاذ بوزيان، فوفقه سبب تزايد الأطفال المتشردين، إضافة إلى الإخلال بالمسؤولية، يكمن في وجود “عجز في التضامن الإجتماعي”.
يفسر بوزيان المسألة، فيعتبر أن أسر الأطفال المتشردين “أخلت بمسؤوليتها الاجتماعية والأخلاقية والقانونية في التكفل بأطفالها وحمايتهم ” أو على الأقل “عجزت عن تحمل هذه المسؤولية”.
في حين يكمن العجز في التضامن الإجتماعي، حسب أستاذ علم الإجتماع، في تقلص دائرة التضامن شيئا فشيئا، بحيث أصبحت “منحصرة دائرة محدودة من الأقارب الأقربين ولم تعد آليات التضامن فعالة بين أفراد العائلة الممتدة مثلا في الأوساط الحضرية الفقيرة”.
التدخل مطلب عاجل لتفادي الاثار “المدمرة”
بالعودة إلى ظاهرة التشرد عموما، فإنه ينبغي التدخل عاجلا لمعالجة لهذه الافة، كي يتفادى المجتمع الرشداوي ومجتمع الجهة عموما الأثار “المدمرة” للتشرد، والتي لا يخرج عن نطاقها، حسب الأستاذ أحمد بوزيان “زعزعة صورة المجتمع عن ذاته” عبر تركز صورة عند أفراد هذا المجتمع ، مضمونها “غياب التماسك وضعف التضامن” فيه .
بل و”زعزعة صورة المواطن عن نفسه فالشخص الذي ينصرف إلى بيته ليقضي ليلته في وسط دافئ وهو يعرف أن هناك أشخاصا سيبيتون في العراء دون أن بفعل شيئا لا شك أن إحساسه بالمسؤولية سيضعف وصورته الإيجابية عن ذاته ستهتز”.
وليست هذه الأثار، إلا جزءا بسيطا من سلسلة اثار وظواهر أخرى، يخلفها التشرد مثل السرقة وتناول المخدرات والدعارة، وهو ما يسائل ضمائر جميع الفاعلين، حول استعدادهم، كل بدوره، لأجل القضاء على هذه الظاهرة التي تقوض الصورة الشائعة عن المنطقة وتهدد بتقلص تضامنها الإجتماعي.