الاستقالة بين الحق في الاختلاف و الحق في التوريث و الحق في التعطيل

المختار العيرج
لعل الحق الدستوري الذي قلما لجأ إليه المسؤولون، هو حقهم المكفول في تقديم استقالاتهم من المهام الموكولة لهم، فلم نسمع عن وزير مغربي قد استقال، و النادر الذي حدث كان الوزير فيه مخيرا ما بين الاقالة و الاستقالة التي تكون طوق نجاته لحفظ ” ماء وجهه ” فتأتي هذه الاستقالة مغلفة و ملفوفة بأقمشة ناعمة، أما البرلمانيون فالاستقالة لم تمارس بمعناها الحقيقي و في حقيقتها العارية إلا لما رفض الاتحادي حفيظ منصبه البرلماني في عهد حكومة عبد الرحمان اليوسفي، و التجأ إليها عدد معدود لكن في ظروف يغلب عليها طابع التفويت و التنازل بله التوريث، و مورست لما اعتمد نظام اللائحة فصار متاحا ترتيب الأصول و الأقارب و الأصهار في المراتب الثانية تحسبا لكل ما من شأنه و ترقبا لكل الطواريء الممكنة .
أما فيما يخص الجماعات و إذا أخذنا جماعة الرشيدية كمثال، فإن هذا الحق مورس في مرات تحسب على رؤوس الأصابع، لكن و رغم الميثاق الغليظ الذي يربط المنتخب بناخبيه فلم يكلف أي مستشار نفسه إخبار الساكنة بأسباب تقديمه لاستقالته، استقال الحاج الرتيبي المنتمي للحزب الوطني للأحرار من مجلس بلدية الرشيدية و لم يتسرب أي شيء عن دواعي توقيفه الاختياري أو الاضطراري لتمثيل ساكنة دائرته، و استقال بعده حسن الوافي من حزب العدالة و التنمية و بقي سبب تقديم الاستقالة محصورا في فئة معينة من مناضلي الحزب و ثلة قليلة جدا من المواطنين، و كان سبب هذه الاستقالة مرتبطا بسيارة الرئيس من نوع بوجو 704، فالمعارضة البيجيدية كانت قد جعلت منها ورقة ضغط على الرئيس و أغلبيته و وظفتها لمكاسب سياسية، لكن بمجرد أن حازت على الأغلبية في الانتخابات الموالية وقع الخلاف بين المستشارين حول استعمال الرئيس لهذه السيارة في مآربه الادارية، و لما أصر الرئيس على حقه فيها استقال حسن الوافي الذي كان يقول بأنه إذا كان لابد من ” خدمة ” لهذه السيارة فيجب أن توضع رهن إشارة الموظفين و ليس المنتخبين من حزب العدالة و التنمية الذين شنوا حملة شعواء على تبذير المال العام في سيارة من هذا النوع .
و يستقيل في غضون الأيام الماضية مولاي عمر عمري من مهامه كمستشار في المعارضة من جماعة الرشيدية، لكن بدون تقديم أي سبب لهذه الاستقالة .
في هذا الشأن لا تنفع الاتصالات مع المستقيلين لاستقصاء آرائهم و سؤالهم عن دواعي استقالاتهم، فالميثاق الذي يجمعهم بالناخبين و بأحزابهم يقتضي منهم و من هيئاتهم اصدار بيانات في الموضوع، لكن و كما يلاحظ في جماعة الرشيدية على الأقل لم يكلف أحد نفسه بالتوضيح و التفسير، على الرغم من أن اللجوء ألى الاستقالة و في ظل ما تواتر من المكاسب المادية و المعنوية المستمدة من هذه المهام، تعد قابلة للتوظيف السياسي المحقق لبعض المكاسب الحزبية، فلما يفضل المستشار الخروج من ” دار العرس ” فهذه جرأة لم يقدم عليها سوى عدد محدود على امتداد كل الولايات الانتخابية منذ الاستقلال، فالمستشار المستقيل لا ينظر إليه كمنهزم و فاشل بل بالعكس كإنسان له الشجاعة لينهي مسلسلا رأى فيه ما لا يراه المواطن خارج المجالس المنتخبة، كثيرا ما سمعنا رؤساء و نوابا ينتقدون بحدة مهامهم و يقسمون بأغلظ الأيمان أن لن يعودوا لهذا ” العبث ” لكن بمجرد الاعلان عن تواريخ الترشيحات نراهم يهرولون نحو مكاتبها و الدليل أن نفس الوجوه يعاد انتاجها و صار تمثيل السكان حقها الحصري المكتسب .
تعبر الاستقالة عن موقف المستقيل من النظام العام و النسق المعتمد، و كثيرا ما شاهدنا بأعيننا و سمعنا بآذاننا أن الفئة المثقفة و المسيسة من المنتخبين تتذمر من تغول سلطة المراقبة على المنتخبين و بعضهم يعتبر أن المراكز التمثيلية لا وزن لها و لا قيمة أمام ما منحه المشرع لرجال السلطة من اختصاصات واسعة، صار معها الرؤساء دمى تحرك من خلف الستار و هم أمام خيارين إما قبول الوضع كما هو و التعايش معه أو الانسحاب و في هذا الاطار تبدو الاستقالة لو تواترت كرفض لقوانين ترجح كفة سلطة المعين على سلطة المنتخب، لكن مادامت الاستقالة لم تفعل على نطاق واسع فهذا يعني أن المنتخب غلب المكاسب المادية على المواقف المبدئية، و كل ما يمارس و يقال ليس سوى ذر للرماد في العيون .. يتقاضى المنتخبون تعويضات هامة عن مهام التمثيل فهل يتجرأ أحدهم و يقدم للمواطنين جردا مما استفاده من مهامه على امتداد الولاية، الناخب يعرف تعويضات البرلمانيين لكنه لا يعرف شيئا عن تعويضات الرؤساء مادامت تدخل فيها تعويضات عن التنقل داخل الوطن و خارجه، بالاضافة إلى ما يستفيد منه بعضهم في علاقته الزبونية مع بعض المقاولين الذين تتواتر استفادتهم مما تنجزه الجماعة من مشاريع و أشغال .
و ترتيبا على ما سبق فالاستقالة هي الحق الدستوري الوحيد الذي نادرا ما فعلت لأسباب ترتبط بالقناعات و المباديء و تخليق الحياة العامة، و لما مورست كانت إما للحفاظ على نفس المكتسبات عن طريق توفير شروط الانتقال الآمن للمهمة للقريب و الحبيب، و البعض الآخر أقصاها من قاموسه و اختياراته و فضل ذل المنصب على رحابة المبدإ و على تخليق المرفق العام .