تقرير حول اختلالات النشر الرقمي في المغرب في ضوء استراتيجية “المغرب الرقمي 2030”

بقلم محمد ملشوش
خبير في مجال المكتبات والمعلومات
مقدمة
في سياق التحولات الرقمية العالمية، أطلقت المملكة المغربية رسميًا، في أبريل 2025، الاستراتيجية الوطنية “المغرب الرقمي 2030“، التي تهدف إلى جعل الرقمنة رافعة محورية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتسعى هذه الاستراتيجية إلى خلق 240 ألف منصب شغل مباشر، وتعزيز مساهمة الرقمنة في الناتج الداخلي الخام، وجعل المغرب قطبًا رقميا إقليميًا في أفق سنة 2030.
غير أن تحقيق هذه الأهداف الطموحة يتطلب معالجة عدد من الاختلالات البنيوية، خاصة فيما يتعلق بتأخر النشر الرقمي، الذي يمثل أحد المكونات الأساسية للثقافة الرقمية والمعرفة المفتوحة. ويكشف التقرير السنوي الصادر عن مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية حول منشورات الأدب والعلوم الإنسانية والاجتماعية في المغرب لسنة 2023-2024 عن فجوات جوهرية تحدّ من تطور هذا القطاع.
1 ـ ضعف الإقبال على النشر الرقمي
رغم الإمكانيات التي تتيحها الرقمنة من حيث التوزيع الواسع، وتيسير الوصول إلى المعرفة، فإن النشر الرقمي لا يزال يمثل سوى 8,97% من مجموع النشر في المغرب، و6.3% فقط من الكتب الصادرة، مقابل هيمنة ساحقة للنشر الورقي بنسبة 91%. هذا التأخر يعكس غياب سياسات واضحة لدعم رقمنة الإنتاج الثقافي والمعرفي، ويطرح سؤالًا حول مدى تكامل المشاريع الرقمية الكبرى، مثل “المغرب الرقمي 2030″، مع واقع النشر والمحتوى المحلي.
2 ـ محدودية الفاعلين وتفوق المؤسسات العمومية
يظل النشر الرقمي حكرًا على عدد محدود من الفاعلين، في مقدمتهم المؤسسات العمومية والهيئات البحثية، التي تصدر ما يقارب 28% من إجمالي المنشورات الرقمية باللغة العربية، وعلى رأسها مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد. أما القطاع الخاص، فلا يزال حضوره ضعيفًا، رغم ما أعلنت عنه الحكومة من تشجيع للمقاولات الناشئة وخلق بيئة محفزة للابتكار. ويؤشر هذا الوضع على الحاجة إلى ربط استراتيجية الرقمنة بتحفيز منظومة النشر بشكل فعلي، خاصة من خلال الشراكات التي تم التوقيع عليها في إطار العقد-البرنامج 2024-2030.
3 ـ اختلال في التوزيع اللغوي
تغلب اللغة الفرنسية على الإنتاج الرقمي بنسبة لافتة (89 عنوانًا)، مقابل 72 باللغة العربية و41 بالإنجليزية. ويعكس هذا الانحياز اللغوي استمرار الاعتماد على الفرنسية في البحث الأكاديمي، ما يطرح إشكالية ديموقراطية الوصول إلى المحتوى الرقمي، خاصة في ظل ما تسعى إليه الدولة من تسهيل الولوج إلى الخدمات والمعارف الرقمية لجميع المواطنين.
4 ـ غياب مجالات معرفية رئيسية
يكشف التقرير عن غياب شبه تام للإبداع الأدبي، والدراسات الإسلامية، والتاريخية، في المجال الرقمي، رغم حضورها القوي في النشر الورقي. ويتجلى ذلك في تمثيل لا يتجاوز 0.5% للدراسات الأدبية، و1% للدراسات التاريخية، و0% للدراسات الإسلامية. وهذا النقص يحدّ من إمكان بناء مكتبة رقمية مغربية شاملة، ويعكس غياب استراتيجية متكاملة لرقمنة التراث الثقافي والمعرفي.
5 ـ ضعف الترجمة الرقمية
لم تتجاوز الترجمات المنشورة رقميًا ثلاث ترجمات إلى اللغة العربية، ما يعكس قصورًا كبيرًا في حركة الترجمة الإلكترونية، سواء من اللغات الأجنبية إلى العربية أو العكس. ويضعف هذا الخلل من إشعاع المحتوى المغربي على المستوى الدولي، ويحدّ من قدرة النشر الرقمي على المساهمة في “تصدير المعرفة”، وهو ما تدعو إليه استراتيجية المغرب الرقمي 2030 من خلال التركيز على “التصدير الرقمي” وتشجيع المقاولات الناشئة في هذا المجال.
خاتمة وتوصيات:
في ضوء الطموحات الوطنية المعلنة ضمن استراتيجية المغرب الرقمي 2030، يبدو من الضروري الإسراع في إصلاح منظومة النشر الرقمي. ويتطلب ذلك:
- ربط السياسات الرقمية الكبرى ببرامج ملموسة لدعم النشر الرقمي الثقافي والعلمي.
- تحفيز دور النشر والمبادرات المستقلة على رقمنة المحتوى المحلي.
- تشجيع التعدد اللغوي في النشر، مع تعزيز اللغة العربية.
- سد الفجوات المعرفية من خلال دعم مجالات مهمشة رقميا.
- إطلاق برامج وطنية للترجمة الرقمية، بشراكة مع الجامعات والمراكز البحثية.
إن نجاح التحول الرقمي في المغرب لا يقتصر على تطوير البنية التحتية أو رقمنة الإدارة، بل يشترط كذلك تعزيز المحتوى الرقمي وتكريس ثقافة رقمية شاملة، يكون فيها النشر الرقمي رافعة للمعرفة والابتكار والانفتاح.