
محمد السلمي
في أعماق الجنوب المغربي، حيث تتعانق جذور الإنسان بأرضه كما تتشبث جذور النخيل بعمق الواحة، تنبض الحياة بنغمة خاصة لا يسمعها إلا من تماهى مع صمت الطبيعة. هنا، بين دفء الطين وعراقة البيوت التي تشهد على قصص الأجداد، وبين الخضرة التي يظللها النخيل وأصوات المياه الجارية، تُخلق ألحان تروي حكايات الأرض والإنسان. بأيدٍ عانقت الطين ونحتت من قسوة الحياة فناً، تولد أنغام تحاكي النبض الأول للحياة. في هذا المشهد، يقف خالد الحمري كمن ينقش على الذاكرة لوحة أصيلة، تروي عشق الإنسان لتراثه وارتباطه بجذوره، ليعيد بأوتار السنيترة والعود صدى صوت الأرض الذي يأبى أن يغيب.
خالد الحمري ليس مجرد فنان شاب، بل هو وريث لإرث عائلي فني تعلّم فيه أبجديات الفن البلدي على يد عمه الشريف الحمري، شيخ هذا الفن وأحد أعمدته البارزة. في كنف هذه العائلة، نما خالد محاطًا بأصوات السنيترة وأوتار العود، حيث كانت الموسيقى جزءًا من نسيج حياته اليومية. لم يكن الفن بالنسبة له مجرد شغف، بل رسالة ومسؤولية حملها على عاتقه، ليحمي هذا التراث من غبار النسيان.
الفن البلدي، الذي ينبع من روح تافيلالت، ليس مجرد لون موسيقي، بل هو نبض المجتمع وهمسه، إيقاع الأفراح وأغاني الشجن… خالد بفطرته الفنية المرهفة، أعاد إحياء هذا اللون الموسيقي، جامعًا بين صدق الماضي ورؤية الحاضر. في مسيرته، استلهم من رواد هذا الفن أمثال مولاي علي بلمصباح والمرحوم باعوت وغيرهم ، الذين تركوا بصمتهم العميقة في تاريخ الموسيقى المحلية. لكنه لم يكتفِ بذلك، بل أضاف لمساته الخاصة، ليصبح جسراً يمتد بين الأجيال.
عبر آلات موسيقية تقليدية مثل السنيترة والعود، تمكن خالد من إعادة الحياة إلى مقطوعات نادرة كـ” “حمام الورشان” و”شرع الله معاك ” “خليني نبكي او نوح” …، مقطوعات حملت حكايات الزمن القديم وأعاد صياغتها بروح جديدة. هذه الأعمال ليست فقط أنغامًا تعزف، بل هي شهادات حية على قصص الناس، على أحلامهم وصراعاتهم، وحتى على لحظات انتصارهم الصغيرة.
إيقاعات الفن البلدي، التي تنبض بالحياة مثل نبضات القلب، تأخذ المستمع في رحلة عبر الزمن. فمن الإيقاعات الحماسية التي تُشعل الفرح في المناسبات، إلى النغمات العميقة التي تسرد حكايات الشوق والفقد، استطاع خالد أن يحافظ على هذا التنوع، مستعينًا بحسه الموسيقي لتقديم هذه الأنغام بأسلوب يخاطب الأذن والقلب معًا.