مع الخيوط الأولى لشمس الصباح، يصحو يوسف يتلمس الخطو صوب حنفية الحي، يبتغي ملئ ما تيسر من عبوات بلاستيكية ماءا قبل استيقاظ الجميع، فكل سكان الحي رياضيون بارعون يستيقظون باكرا ويمارسون العدو للظفر بالرتبة الاولى للفوز بشرف الإرتواء.
رغم أن إسمي يوسف فلا حظ لي في جب يعفيني كدر الزحام في كتلة الأجسام الضخمة والتي تفوح منها روائح صباحات لم تغتسل، ويعفيني من الخناقات التي تندلع إلا لماما نتيجة تهور البعض، أو عند تجاوز القواعد التي تم تسطيرها برؤوس شُجت، ونساء فقدن أسنانهن، ومزقت ما ستر أجسامهن من أسمال للظفر بقطرة ماء، فلا مكان هنا لحرمة الأجساد، ولا لسلامتها، ولا اعتبار للسلامة النفسية لأي كائن، فالعنف هنا هو عملة التداول، ومن لا يمتلكه فهو فقير معدم .
أتذكر الفستان المزركش والبديع لـ “عيشة” والذي كان حديث كل نساء الحي، بعدما رقصت به في حملة مرشح الحي، والذي وعدنا بأن نصبح من الأحياء، فالأحياء أحياء وأموات، وسنعيش كالإنسان بحبوحة العيش، وستبلط أزقتنا، وستجري المياه رقراقة بدون صنابير، وستعوض القطارات الكهربائية العربات،… رقصت ” عيشة ” ليلة كاملة بدون توقف كما لو بها مس، فرحا وطربا بالوعود.
مرت الحملة كغمامة صيف، وأصبح فستان ” عيشة ” نذير شؤم في ” الحي ” وكان يوم الشجار فرصة لن تعوض للتخلص منه، فكان ما كان.
كنا صغارا، نتحلق حول الغرباء الذين اقتحموا رتابة ” حيينا ” طيلة أيام، نتسابق لحمل وجمع الأوراق الملونة التي يوزعونها بسخاء كالوعود بتحويل ” الحي” لجنة عدن : الكرامة الإنسانية، الخدمات الحيوية، حق الطفل ، الشغل ،التطبيب، السكن اللائق، وحتى الحيوان سينعم بالحقوق، وكنت أضحك عندما أتخيل حمار وبغلة عمي علي، ومعزة ربيعة، وكلب ” سي عمر ” سينعمون هم كذلك ببعض الحقوق. هراء. رغم أني كنت حدث السن إلا أنني لم أصدق ولو كلمة مزركشة واحدة من قفطان الوعود المقدمة كقفطان “عيشة “.
عربتي الحديدية هي رفيقة دربي، فهي من تحمل عني أوزاري من عبوات الماء، ولي فيها مآرب أخرى، فهي قطار حياتي الذي أمتطيه رفقة أبناء الجيران والحي لسرقة بعض لحظات الفرح والشغب الطفولي، رغم ما نسببه من فوضى في الحي، وخاصة إغراقه في سحابة من الغبار المتصاعد، ويكون جزاءنا سيل من السباب والدعوات بالويل والثبور.
الصباحات في حينا ليست كباقي الصباحات، أستيقظ قبل استكمال الطيور لأحلامها، أملأ عربتي بالعبوات البلاستيكية وأقصد الحنفية الوحيدة لأملأها من أجل أمي قبل المغادرة باكرا للمدرسة لعلي أصل في الوقت، قليلا ما أكون محظوظا وأكون من الأوائل الذين ينجزون المهمة قبل استيقاظ الجميع، وأملأ عبواتي وأنصرف مزهوا بالنصر المحقق على زمرة النيام، وغالبا ما أجد نفسي أمام طوابير طويلة كما لو أن أهل الحي طلقوا النوم وقرروا الإصطفاف منذ الليلة السابقة أمام الحنفية البئيسة في هدوء حذر، قبل هبوب العاصفة.
وككل أقراني بالحي لم نكن نواظب كثيرا على الدرس، إذ من الناذر أن نحضر في الوقت، وإن حضرنا ففي الوقت الميت، كانت كلمات المعلم كطلاسم مبهمة، غير مفهومة، فقد كنت أشعر بالغرابة في هذا الوسط، زملائي في الدرس غير أقراني في الحي، فهندامهم نظيف، منظم وتفوح منه مختلف العطور، عكسنا تماما؛ يتفاعلون بكل سلاسة مع أسئلة المعلم، وأجد نفسي أتهجى حروف السؤال، والبحث عن المعنى، المرة الأولى التي فاجأت فيها المعلم بسرعة إجابتي عندما كان الدرس حول دور الماء في الحياة، وكتب على السبورة ” وجعلنا من الماء كل شيء حي” تذكرت سريعا تلك العبارة المكتوبة بجدارية المدرسة، ولطالما أغلق حارس المدرسة الباب في وجهنا لأننا متأخرين على الوقت، فقد كنت أتخذ مكانا قرب تلك الجدارية إلى حين مغادرة التلاميذ، ولكثرة جلوسي قربها بشكل غريزي، فقد صارت جزءا من كياني؛ صحت بعد طرح المعلم لسؤال حول الماء بانفعال وأنا أرتجف، أن الماء هو الحياة، وأن لكل شخص الحق في الحصول عليه دون عناء، ودون ان يتعرض للعنف او الاهانة، وأن الأحياء التي لا تتوفر على الماء هم أموات، واستطردت بأن عدم الحصول على الماء هو السبب في العراك والعنف اللفظي والجسدي، وبسببه يضرب الرجال النساء، ويضرب الذكور والاناث الصغار منهم، وبسبب الماء لا يحصل الاطفال على وجبة الفطور والغداء أحيانا، ولا يستحمون كأقرانهم، …وأنا ألهث من شدة الإنفعال، وبسبب الماء تمزق نعالنا وأسمالنا البالية أصلا، كما حدث مع قفطان ” عيشة ” فانفجر الجميع ضحكا لذكري حادثة القفطان، فتدخل المعلم لتهدئة روعي، لكني لم انتبه لصوته، فقد حلت صورة المرشحين بألوانهم أمام عيني، وكنت أواجههم في خيالي، وأصرخ ملوحا بقبضتي في وجههم: الماء…أريد ماءا… صنبور واحد لا يكفي، صنبور لكل منزل، نحن أموات فلا ماء في حيينا، توقفن لا ترقصن على وعودهم المزركشة، إرحلوا ..إرحلوا، فتملكتني رجفة عرت كل جسدي، وانطلقت الدموع ،ساخنة على خدي ولم اتنبه إلا والمعلم يحتضن جسدي، وزملاء الدرس متحلقين حولي، وانا أتمتم: إرحلوا، فأنا يوسف يا أبي، سأُرجع جُبي، وأٌروي عطشى الحي، فلا نعال ستمزق، ولا عراك بعد اليوم، أنا يوسف صاحب الجب، ومائي يكفيكم…