محمد العفو يكتب..استراحة بلا شاي في صالون شاي

محمد العفو
يستمع إلى الموسيقا الأمازيغية، لأنه اعتاد على شيء منها، و بتمرن موسيقي عصامي، يعزف على آلة من آلاتها التراثية، و يدرك ما تعنيه مفردات تتتابع في ذهنه بلا انقطاع: وتر و نغمة و مفتاح و مقام و مقياس… في نفس الوقت، لا يفوته الاستماع إلى بعض الأعمال الكلاسيكية، إلى درجة أنه أحب بعضها بشغف. إنه أقدرنا اليوم دائما، و بافتخار يغمره، على الاعتراف بمكانة ما قدمه رواد ” الروايس”؛ و على تذكر أجمل أغانيهم، تلك التي تجعله يعيش من جديد اللحظات التي حركته فيه فرقة ” الدمسيري” أو ” واهروش”. يخبرنا عادة أن الاستماع لا يحتاج إلى أي مهارة، هو محظ أخذ بظاهر الجملة الموسيقية من دون تَأوَّل، و أن هذا الأخذ يكفي لتحصيل المتعة؛ فلو أعْدَدْنا أنفسنا لمثل هذا في لحظات السكينة والهدوء؛ فربما نُوفَّق عندها لإدراك المتعة؛ لكنه مقتنع بأن المتعة الواعية، المنسوجة بالمعنى، أقوى من الاستمتاع الذي يتلوه الصامت.
لست مبالغا في القول إنه متعدد الاهتمامات في بلدته: من العلمية الصرفة إلى الأدبية والاجتماعية. والأخص في ذاك التعدد، أنه يتميز بمشاركة محيطه الفني إمعاناته في الفوطوغرافيا؛ هي غالبا إمعانات التذوق السامي الخالص، أي الفوطوغرافية للفوطوغرافيا، فليست لفائدة اجتماعية، كما يزعم التحليل الاجتماعي للنصوص الأدبية، و ليست لتوظيف إيديولوجي. فلا تزال تعليقاته تتفلَّتُ، من المحتوى النفعي والظرفي، لتُظهر حقيقة ما يَجهَدُ في تبليغه إلينا. و هنا، يعجب المرء أن تكون له تلك الاهتمامات المتنوعة، و مع ذلك لا ينجرف إلى الامعان المشوش على ظاهر الفوطوغرافيا. أي أنه، و في نفس الوقت، تحديدا يعثر على وقت للفوطوغرافيا الخالصة، والموسيقا والراوية لارتواء عطش التذوق الخالص.
يستخدم طرقا متعددة لفهم أي عمل فوطوغرافي لا يعرفه قط، مثل أي عمل موسيقي لم يسمعه قط. إن تحديقه في أعمال فوطوغرافية معينة كالاستماع إلى مجموعة ” روايس” أمازيغية؛ عادة ما يُشبِّه إبداعاتها بوَتَريّات مختلفة المرجعات الموسيقية ثقافيا وأسلوبيا وفنيا؛ منها: الرباعية الوترية لبيتهوفن رقم 14! لم يكن لديه سوى نقطة مرجعية في تلك المقارنة، نقطة واحدة: لقد تم تأليفها لآلات وترية، يتشبث بها كمحترف في التحليل الموسيقي، لا يريد أن يركب سفينة العموميات. تَخيَّل أن المجموعة تؤدي ألحانها في ساحة ” أسراك”، في مواجهة الروتين اليومي، مع أزياء مستعارة؛ و لكن بالفعل حيث يكون الموسيقيون في طريقهم إلى الانغماس في المرح. يتساءل عما إذا كان باستطاعتنا الرقص على مثل هذه الألحان المبهجة. أخيرا قال: ” ليس سهلا”. باختصار، لقد كانت من إدراكه جميلة جدا؛ لكن مفرداته الاستطيقية توقفت عند هذا الحد. و هكذا يلهو عادة بفهم عمل فوطوغرافي بتشبيهه بمجريات واقعية.
دعانا، ذات يوم أنا و أخي و صديقين، إلى وجبة عشاء بالقرب من محطة التاكسيات، و قبل أن أذهب، مررت بأرشيفي الخاص باحثا عن سند أو أثر أو قديم- جديد نحمله معنا. والاختيار صعب؛ فالرجل لا يرمي أي مجازفات رعناء! و لأن الكريم في طبعه يتذوق التشكيل والشعر و يقرأ النصوص التاريخية والعلمية، و يطالع بالعربية والأمازيغية والإنجليزية والألمانية، و إن تكن هذه الأخيرة ليست أكثر طلاقة؛ فمع تأثره بما هو متاحه اليوم من إمكانيات تعليمية ذاتية، و بوَسَطه الاجتماعي معا، يمكن أن ينصرف عن التَّشكي والتَّباكي و إكثار الأعذار.
لم أجد صعوبة في الانتقاء، خاصة و أن الإصدارات والمعارض والأخبار الآنية في المذياع والقنوات نادرة جدا عن مدينتنا، معظمها مجريات و يوميات محدودة الأثر الإبداعي، في الوقت الذي تعثر فيه على مستهدفين كثر بسهولة، حيث لا ينقص المدينة الغارقة في الملل والرتابة باحثون عن الجاري و عن خشاش الأرض. و لأجل محو هذا الأثر على أمسيتنا، لم أعد خائبا، حملت معي مجلات فنية و تاريخية و دوريات أدبية و فكرية. عثرت على موضوعات فيها، ثم وقعْت على أحدث ترجمة لدراسة عن أحد اهتمامات ما بعد الكولونيالية.
الجديد أن ما يتضمنه تعبير ما بعد الكولونيالية، بوصفه مسألة أساسية تحاول الإجابة عنه، هو: هل هذا التفوق العلمي والفني والسينمائي و غيره من أصل أوروبي؟ إن عقدة الأوروبي الأبيض المخلص، و في نفس الوقت العجوز والفاشي والمستعمر… البطولي اختصارا، لا يزال صندوق العجائب، و خزان الحلول، و حامل مفاتيح السعادة، لم يقم شعب أو نسل أو كائنات لتتفوق عليه حتى الآن. هو العبقري الكلاسيكي والحديث والمعاصر الذي ” سيبقى إلى الأبد”، يرافقنا من تجربة إلى أخرى، و يأخذ بيدنا من بيداغوجيا إلى أخرى، ينتقل معنا من لحظة إلى لحظة، و كلما استوثق ازداد لمعانا و حداثة. و هذا عين ما حدث مع ” فاوست”، بطل مسرحية ” فاوست” لغوته، يعطي اسمه لكل متطلع للكمال، كبطل للحداثة، مثل: نيتشه و هابرماس و ليوتارد؛ لأن موقعهم لا يتغير في التراجيديا والواقع.
كان بجوار الدراسة ألبوم طلع الغبار على غلافه الجلدي، لكن بدل أن يرافقنا الألبوم الفوتوغرافي، الذي يعود إلى عهد قديم، إلى صالون المدنية حيث سنلتقي زميلنا، قبل وجبة العشاء، استللت فقط، فوطوغرافيا بالأبيض والأسود لمجموعة من الأطفال ” Breaker boys“، و بدأت أحضر لما يمكن أن تثيره هذه الفوطوغرافيا في الصالون.
فيها إشارات، ليست إلى تراجع تشغيل الأطفال اليوم؛ بل: إلى حرية تنهار في بلد الحرية والمساواة والأخوة، وإلى حرب داخلية تدعمها العجوز، وإلى شعبويات في دولة تُعد سيدة العالم، كذلك، و حال ما شاهدت وجوه الأطفال في تلك الفوطوغرافيا تذكرت ” حركة الجيل الأخير” المعنية بحماية المناخ التي يقال إنها لا تهدد الديمقراطية في حين أنها تعرضت لمداهمات بوليسية. و هي إشارات، و غيرها كثير، إلى البطل الذي يحاول انقاذ ذاته عبثا من الغرق في التيه؛ عزاؤه في ما ينقل من الأدب اليوناني عن هوميروس في إيقاعات إما روائية إما شعرية، تعبر بما فوق الشعر عن محنة ” إنسانيته”.
لكن لما هذه الإشارة التي حفزتها في ذهني فوطوغرافيا؟ الأطفال الواقفون تضربهم عاصفة من رياح تحمل غبار الفحم الذي استخرجوه توا من باطن الأرض، و على صخور من غرانيت و حبات الرمل و كالكير… تحملهم موجة عالية عاتية من دهشتهم أمام الفوطوغرافي، ترميهم هبة ريح أثقل معدنا مرة أخرى، فتخلجت أجفانهم، فيحاولون التعلق بطرف أمل ينجرف إلى أسفل السفح، يسيل عقودا من الزمن ثم عقود، يزيده تعنت الواقع دفعات إلى الهاوية، يتطلع في تهاو لا قاع له، إلى أن يجد نفسه وجها لوجه مع الهاوية لا غير. و عندما بزغ فجر العقد التالي ينبئهم ببصيص، بدا معه أن الرياح تلاشت، و ربما هبط هدوء مرحلي، و انقشاع الظلام. آتاهم قائل: ” يا له من رعب”، لقد لمحوا ذاك البصيص في ما يظهر لهم قاعا. هؤلاء الأطفال اليوم وجدوا أنفسهم عجزة.
أمضينا أمام الفوطوغرافيا أمسية كاملة، في صالون الشاي، في حين أن وَقْعَ أخبار المدينة: عن توزيع المنح على بعض الجمعيات خارج القانون، واختطاف أطفال لاستخراج الكنوز، والتسلط على ذوي الحاجة، والقفز على قواعد الديمقراطية في مجلس المدينة…، آثار رائجة قبل أيام بلغت المسامع؛ لكنها لم تستأثر باهتمامنا و لا نقاشاتنا المشاغبة. أمضى البعض يشنف آذاننا بشعر درويش، والبعض يقتبس من روايات حنا مينة ساخر من وضعية المدينة، البعض يلمح إلى بعض المتدخلين مُنكتا. و خارج ذلك لا أحد تكلم عن السياسة، كما لم يأت أحد على ذكر إسلاميات و لا اجتماعيات و لا توقعات امتحان اللغة العربية، نسينا أننا سنجتاز باكالوريا أحرار مثلما نسينا أن سنحتسي الشاي. تفادينا، و كما هو متفق عليه، ذكر أحد و شيء يفسد لمّتنا في الصالون أو يطفئ أضواء الفوطوغرافيا في تلك الأمسية.
فجأة! قال ريان: ” مع الإصابات الميدانية و حقيقة أنه عاد بعد معركة تسريح الحناجر مشيا على طول الشارع الرئيسي كرا و فرا، كان تضميد الرأس ضروريا للحصول على شهادة الباك هذا الموسم”.