يونس حمداوي يكتب.. الرضاعة الطبيعية …. دواء ووقاية للام وللرضيع

تقديم
تعد الرضاعة أهم الممارسات الطبيعية التي تميز الثدييات، ولا شك أن هذه الفطرة لها من المزايا الشيء الكثير يستفيد منه كل من المرضع والرضيع. فعديد الأبحاث التي أجريت على الثدييات ومنها البشر برهنت عن كثير من الفوائد الصحية للرضاعة الطبيعية، لا سيما فيما يتعلق بإكساب الطفل المناعة والحماية للام من بعض الامراض كسرطان الثدي وأمراض السمنة وضغط الدم والكوليسترول.
في هذه الورقة، سوف نركز بشكل أساسي على الآثار المفيدة للإرضاع من الثدي على صحة الام والطفل، ونناقش بعض الجوانب المرتبطة بهذا السلوك الصحي.
1- الحالة الوبائية لممارسة الرضاعة الطبيعية
حسب المسح الوطني للساكنة و صحة الاسرة لسنة 2018 فان 97 في المائة من الأمهات حديثي الوضع يبدأن الرضاعة الطبيعية مباشرة بعد الوضع إلا أن الحقيقة تبقى دون ذلك، اذ أن مؤشرات الجودة لا تزال دون الأهداف المتوقعة، في هذه الحالة نجد أن الرضاعة الطبيعية الحصرية ( لمدة ستة أشهر دون إضافات غذائية أخرى) لا يبارح 35 في المائة، فيحين أن الرضاعة المبكرة تقارب 43 في المائة. نتحدث كذلك عن اختلاف بسيط بين ممارسة فعل الرضاعة عند النساء المرضعات حسب المحيط الاسري وكذا بالمقارنة بمجال الإقامة (حضري أو قروي) بعدما كانت نساء العالم الحضري أقل مواظبة على رضاعة أبنائهم في سابق السنوات. وذكر نفس البحث أن هناك اختلاف في نسبة تغطية الرضاعة الطبيعية على مستوى جهات المغرب، فاحتلت جهة درعة تافيلالت رتابة الجهات في نسبة اعطاء الثدي للمولود في الساعات الأولى (77.6 في المائة).
قد لا تختلف هذه النسب المسجلة بالمغرب عن محيطه الخارجي، اذ يذكر بحث أجرته منظمة الصحة العالمية بتونس[2] أن 41.5 في المائة من النسوة يقتصرن على الإرضاع من الثدي، فيما يقدِم 58.5 في المائة منهن لأطفالهن اللبن الاصطناعي عبر القنينة لوحدها أو مع الإرضاع من الثدي. ومن بين اللواتي يرضعن أطفالهن، فإن 43 في المائة منهن لم يرضعن أطفالهن بعد ولادتهن مباشرة، ولا يعرفن شيئا عن اللبأ.
2-تركيبة حليب الام
حليب الأم عبارة عن سائل بيولوجي معقد يحتوي على آلاف المكونات ويتكيف مع الاحتياجات الخاصة بالطفل الصغير، ويحتوي كذلك على مغذيات كثيرة من بروتينات ودهون وكربوهيدرات ومغذيات دقيقة من معادن وفيتامينات وعدد كبير من العوامل المناعية التي تقي من الالتهابات وغيرها يكتسبها الرضيع عن طريق حليب أمه بالكم والكيف ومتى تطلب جسمه ذلك.
فحديثي الولادة يعتبرون إنسان غير ناضج بشكل خاص (على مستوى النضج المعوي النضج المناعي الفطري والتكيفي) ويتطلب في بداية حياته مصدرا خارجيا للحماية والوقاية المناعية، الشيء الذي يوفره حليب الثدي. ويلعب حليب الثدي أيضا دورا مهما في بدايات المولود اذ يعمل على تطوير وتكوين البكتيريا المعوية لحديثي الولادة، وذلك بفضل مكوناتها السابقة ك البروبيوتيك [3].
و يعتبر اللبأ من أول ما يستفيد من الرضيع بعد الوضع اذ يتم إنتاجه خلال الساعات و الايام الاولى من الوضع و يحتوي على نسبة أقل من الدهون واللاكتوز وله قيمة أقل من السعرات الحرارية ولكنه يحتوي على ضعف كمية البروتين، وخاصة الغلوبولين المناعي وعوامل النمو والسيتوكينات، كما أنه غني بالخلايا المناعية.
ومن المعلوم أن مجموعة من الأبحاث ذكرت أن هناك اختلاف في تركيبة حليب الام حسب مدة الحمل، اذ لوحظ تواجد علاقة عكسية بين مدة الحمل وكمية البروتين والطاقة والمعادن والأحماض الدهنية المتعددة غير المشبعة في اللبأ. لذلك فإن أمهات الأطفال الأقل نضجا ينتجون اللبأ الأكثر حماية. و يمكن إطالة إفراز اللبأ لعدة ساعات أو أيام بعد الولادة المبكرة جدا (الأطفال الذين لم يستكملوا تسعة أشهر من الحمل) ، وهي وسيلة حماية طبيعية لحديثي الولادة غير الناضجين[4]
يتم إنتاج الحليب الانتقالي خلال الـ 15 يوما التي تلي الوضع، اذ يتطور تكوينه نحو الحليب الناضج مع زيادة تدريجية في محتوى الدهون واللاكتوز وانخفاض في محتوى البروتين. ويتم تكييف هذا التطور مع الاحتياجات المتزايدة للطفل المتنامي.
وذكرت بعض الأبحاث أنه يتحكم في انتاج حليب الام مجموعة من الميكانيزمات ، اذ تحفز الرضاعة (تهييج حلمات الثدي برضاعة المولود) على إفراز هرمون البرولاكتين ، والذي بدوره يحث إنتاج الحليب وإفرازه عبر تحرير هرمون آخر يسمى الأوكسيتوسين في الدورة الدموية مما يتم معه افراغ الحليب من الحويصلات الهوائية إلى القنوات والجيوب اللبنية. و بتقليل تهييج الثدي عبر امتصاص الطفل ينخفض معه إفراز البرولاكتين و عليه يتوقف افراز الحليب[4]. وللإشارة فان نمو الثدي يتأثر بدوه بعدد من الهرمونات بما في ذلك هرمون الاستروجين والبروجسترون والبرولاكتين و اللاكتوجين المشيمي البشري وذلك خلال النصف الأول من الحمل .
3- مزايا الرضاعة الطبيعية بالنسبة للطفل
تشير مجموعة من الدلائل إلى أن الرضاعة الطبيعية للطفل تحمي من العديد من المشاكل الصحية من أمراض و التهابات الجهاز التنفسي العلوي والسفلي، وأمراض الجهاز الهضمي، والتهاب الأذن الوسطى، خلال فترة الرضاعة وما بعدها[5] وذلك عبر اكساب الطفل المناعة اللازمة انطلاقا من حليب الام، و تشير الدراسات الحديثة أيضا إلى حماية الطفل من عدوى المسالك البولية[6]. و عليه فان منظمة الصحة العالمية توصي بالرضاعة الطبيعية الحصرية (لبن الثدي فقط ، بدون ماء ، أو سوائل أخرى ، أو مواد صلبة) لمدة ستة أشهر ، مع استمرار الرضاعة الطبيعية التكميلية لمدة عامين وما بعد ذلك.
فكما تم الإشارة له من قبل، فللرضاعة الطبيعية فوائد جمة بالنسبة للأطفال المولودين قبل موعد الوضع العادي أو في سن صغيرة ، اذ عبرت مجموعة من الدراسات عن الخصائص المناعية لحليب الأم عند الرضع الخدج والرضع ناقصي الوزن عند الولادة[7] ويستفيد كذلك من هذه الفوائد الرضع الناضجين أيضا. و قد أظهر عدد من الدراسات على المستوى الدولي وجود علاقة بين الرضاعة الطبيعية والتطور المعرفي عند الأطفال[8]
وتجدر الإشارة أن عدد من التحليلات الوصفية والمراجعات الكمية الحديثة أكدت التأثير الوقائي للرضاعة الطبيعية ضد سمنة الأطفال[9] و ضد الأمراض المزمنة مثل أمراض القلب و كذلك لعلامات الاختطار لمرض السكري[10]. وأظهرت دراسات أخرى أن الرضاعة الطبيعية والحصرية تقلل من حدوث التهابات الجهاز الهضمي والأنف والأذن والحنجرة والجهاز التنفسي خصوصا إذا طال أمدها بشكل مثالي لمدة 6 أشهر، بالإضافة الى انها تسمح بتقليل مخاطر الحساسية عند الرضع المعرضين للخطر (سوابق عند الابوين المصابون بالحساسية). كما أنه يقلل الوفيات المرتبطة بالعدوى (أقل من 3 أشهر) بنسبة 88 في المائة و أكثر من 54 في المائة من جميع نوبات الإسهال و 32 في المائة من جميع التهابات الجهاز التنفسي، ناهيك عن ارتباط الرضاعة الطبيعية بتحسين حاصل الذكاء بمقدار 3 نقاط[11]
4- مزايا الرضاعة الطبيعية بالنسبة للأم
ينتج عن الرضاعة عدد من التكيفات الفسيولوجية التي لها تأثيرات مباشرة على صحة الأم والطفل، والتي قد يمنح بعضها مزايا قصيرة وطويلة الأمد للأمهات المرضعات. اذ تعزز الرضاعة الطبيعية في فترة ما بعد الولادة المبكرة عودة الرحم بشكل أسرع إلى حالته السابقة من خلال عمل مجموعة من الهرمونات كالأوكسيتوسين. وذكر مجموعة من الباحثين في الميدان الصحي أن الرضاعة تؤدي ايضا إلى عودة أسرع لوزن ما قبل الحمل [1]. كما تؤثر الرضاعة أيضا على استقلاب الجلوكوز والدهون مما قد يكون لها آثار على منع التطور اللاحق لمرض السكري وأمراض القلب و السمنة.
تساعد الرضاعة الطبيعية بعد الولادة مباشرة كذلك على تعافي الأم من تبعات الولادة، عبر إفراز هرمون الأوكسيتوسين في مجرى دم الأم الذي يساعد في انقباضات الرحم، والتي بدورها تساعد على طرد المشيمة وتقليل فقدان دم الأم، و قد اشار الى ذلك العديد من الدراسات[17]
4.1- تحمي من خطر الاصابة بالسرطان:
أكد باحثون في مختبرات البحث في امراض السرطانات أن الإرضاع الممتد يرتبط بتقليل مخاطر الإصابة بسرطان الثدي والمبيض وسرطان بطانة الرحم. [12] [13] اذ يلاحظ انخفاض ملموس في مخاطر الإصابة بالسرطان خصوصا عند إطالة فترة الرضاعة الطبيعية وأشارت دراسات أخرى أن الخطر النسبي للإصابة بسرطان الثدي انخفض بنسبة 4.3 في المائة لكل 12 شهرًا من الرضاعة الطبيعية[14] وذكر مختصون في دراسة وضبط سرطان الثدي بالولايات المتحدة الامريكية أن هناك دليل على وجود علاقة سلبية بين طول فترة الرضاعة وخطر الإصابة بسرطان الثدي لدى النساء. يستمر هذا التأثير “الوقائي” الظاهر للإرضاع. هذا يعني أن الرضاعة الطبيعية هي وقائية[15] [16].
4.2- فقدان الوزن بعد الولادة:
ثبت أن النساء المرضعات يفقدن الوزن بشكل أسرع من النساء غير المرضعات في فترة ما بعد الولادة وذلك من خلال نتائج دراسات عبر أقطار المعمور عبرت جلها عن ارتباط جازم بين فقدان الوزن والرضاعة[18] و برر العلماء ذلك بان الأمهات المرضعات تفرزن كميات كبيرة من الكوليسترول في حليبهن ، بمتوسط 15-20 مجم كوليسترول 100 مل من الحليب بين النساء المرضعات حصريا[19] بخلاف غير المرضعات.
4.3- تأثير الرضاعة على الخصوبة:
من الموثق جيدا أن الإرضاع يؤخر عودة الإباضة ويقلل بشكل كبير من الخصوبة خلال فترة انقطاع الطمث (الإرضاع)عند معظم أنواع الثدييات، و بذلك يؤدي الإرضاع إلى كبح الخصوبة[20] عبر تأخير عودة التبويض.
خاتمة
تساهم الرضاعة الطبيعية والحصرية خلال الأشهر الست الأولى من حياة الرضيع في نموه بشكل جيد، وذلك على الرغم من تطور الصناعة الغذائية، فقد أظهرت العديد من الدراسات البحثية أن حليب الأم يبقى الاكثر فائدة لصحة الطفل، وخاصة للوقاية من الحساسية والتهابات الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي وطب الأنف والأذن والحنجرة والتطور الفكري للأطفال[21]. أما بالنسبة للأمهات فتساهم الرضاعة الطبيعية في تقليص مخاطر الإصابة بالعدوى وبمرض السكري والسمنة وكذا نزيف ما بعد الولادة، ولها تأثيرها وقائي من خطر الإصابة بسرطان الثدي الشيء الذي دائما ما تدرج في التوصيات الخاصة بالوقاية من السرطانات على المستوى الدولي. كلها فوائد جعلت المجتمعات الغربية تتبنى هذه الممارسة الطبيعية وتطمح الى الاستفادة أكثر من هذا الدواء والغذاء الذاتي المتوفر لدى كل مرضع، فيحين وللأسف أن مجتمعات الدول النامية تظل تطارد علب الحليب الاصطناعي.
حمداوي يونس، باحث في الميدان الصحي
مراجع :
[1] BMJ 2008; 336 doi: https://doi.org/10.1136/bmj.39521.566296.BE (Published 17 April 2008) [2] منظمة الصحة العالمية : الإرضاع المقتصر على الثدي والإطعام المختلط للرضَّع: المعارف والمواقف والممارسات لدى الأمهات البكري [3]TACKOEN.M (2012) Le lait maternel: composition. centre neonatal CHU Sai,t-Pierre [4] Meier PP, Engstrom JL, Patel AL, Jegier BJ, Brun s NE : Improving the use of human milk during and after the NICU Sta y. Clin Perinatol 2010 ; [5] Bauchner H, Leventhal JM, Shapiro ED. Studies of breastfeeding and infections. How good is the evidence? J Am Med Assoc 1986; 256:887–92. [6] Marild S, Hansson S, Jodal U, Oden A, Svedberg K. Protective effect of breastfeeding against urinary tract infection. Acta Paediatr 2004; 93(2): 164–8 [7]Rodriguez NA, Miracle DJ, Meier PP. Sharing the science on human milk feedings with mothers of very-low-birth-weight infants. JOGGN 2005; 34(1): 109–19. [8]Jain A, Concato J, Leventhal JM. How good is the evidence linking breastfeeding and intelligence? Pediatrics 2002; 109(6): 1044–53. [9] Arenz S, Ruckerl R, Koletzko B, Von Kries R. Breast-feeding and childhood obesity—a systematic review. Int J Obes 2004; 28: 1247–56. [10] Diniz JM, Da Costa TH. Independent of body adiposity, breast-feeding has a protective effect on glucose metabolism in young adult women. Br J Nutr 2004; 92(6): 905–12. [11] Clair-Yves Boquien(2008)Le lait maternel : un aliment idéal pour la nutrition du nouveau-né https://doi.org/10.1016/j.cnd.2018.07.003 [12] Heinig, M., & Dewey, K. (1997). Health effects of breast feeding for mothers: A critical review. Nutrition Research Reviews, 10(1), 35-56. doi:10.1079/NRR19970004 [13] Heinig, M., & Dewey, K. (1997). Health effects of breast feeding for mothers: A critical review. Nutrition Research Reviews, 10(1), 35-56. doi:10.1079/NRR19970004 [14] Beral V. Breastfeeding: Collaborative reanalysis of individual data for 47 epidemiological studies in 30 countries, including 50,302 women with breast cancer and 96,973 women without the disease. Lancet 2002; 360: 187–95 [15] Byers, T., Graham, S., Rzepka, T., & Marshall, J. (1985). Lactation and breast cancer. Evidence for a negative association in premenopausal women. American journal of epidemiology, 121(5), 664–674. https://doi.org/10.1093/aje/121.5.664 [16] Newcomb, P. A., Storer, B. E.. Longnecker, M. P.. Mittendorf, R., Greenberg, E. R., Clapp, R. W., Burke, K. P., Willett, W. C. & MacMahon, B. (1994). Lactation and a reduced risk of premenopausal breast cancer. New England Journal of Medicine 330, 8 1-87 [17] Riordan, J. (1993). Anatomy and psychophysiology of lactation. In Breastfeeding and Human Lactation. pp. 81-104 [J. Riordan and K. G. Auerbach, editors]. Boston, MA: Jones and Bartlett. [18] Manning-Dalton, C. & Allen, L. H. (1983). The effects of lactation on energy and protein consumption, postpartum weight change and body composition of well nourished North American women. Nutrition Research 3, 293-308. Mansfield, C. M. (1993). A review of the etiology of breast cancer. Joumul of the Nationul Medical Association 85, [19]Brewer, M. M., Bates, M. R., & Vannoy, L. P. (1989). Postpartum changes in maternal weight and body fat depots in lactating vs nonlactating women. The American journal of clinical nutrition, 49(2), 259–265. https://doi.org/10.1093/ajcn/49.2.259 [20]McNeilly A. S. (2001). Lactational control of reproduction. Reproduction, fertility, and development, 13(7-8), 583–590. https://doi.org/10.1071/rd01056 [21]Quigley MA, Kelly YJ, Sacker A. Breastfeeding and hospitalization for diarrheal and respiratory infection in the United Kingdom Millennium Cohort Study. Pediatrics. 2007;119(4):e837-42.