الدكتور الحبيب الشوباني يكتب… المقالة الختامية (25) في بيان كيف َأَجْهَزَ طوفان الأقصى استراتيجيا على “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” (5/6)
بهذه المقالة ما قبل الختامية للبحث الذي خصَّصناه لبناء سردية تاريخية مُحيَّنة للمسألة اليهودية في سياق طوفان الأقصى ، سنتعرض لبيان كيف أجهز الطوفان استراتيجيا على “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية”. يتعلق الأمر بتفكيكه للمقوم الاستراتيجي السابع الذي قام عليه بنيان المشروع الاستيطاني في فلسطين المحتلة.
- ثمة سؤال يفرض نفسه عند تأمل المشهد الفلسطيني المأساوي: ما هي الخطورة الاستراتيجية التي شكلتها أغلال اتفاقات “أوسلو” المكبِّلة للشعب الفلسطيني بعد عقود من الكفاح المسلح؟ وهل استطاع طوفان الأقصى كسرها لاستئناف الاشتباك التحرري على أساس وضوح قواعد الصراع الوجودي منذ ثورة البراق سنة 1929؟ للإجابة على هذا السؤال الاستراتيجي، يقتضي السياق التذكير بأنه قبل ثلاثين عامًا خلَت، اعتبر الاسرائيليون اتفاقات أوسلو – الموقعة في 13 شتنبر 1993بين “إسرائيل” ومنظمة التحرير الفلسطينية – حدثا تاريخياً يفوق في مكاسبه الاستراتيجية تاريخ إعلان قيام دولة “إسرائيل” في 14 ماي 1948؛ فيما تعتبره الغالبية الساحقة من الفلسطينيين اليوم، وبعد انصرام ثلاثين سنة، نكبةً ثانية فاقت في خسائرها الاستراتيجية نكبة 1948. وفيما يلي بيان اعتبارات كل طرف؛
- أولا، بالنسبة للطرف الإسرائيلي، يتأسس تقديره على تحصيل المكتسبات التسعة (9) التالية:
- مُكْتَسَبُ وقوع الطرف الفلسطيني في فخِّ تصديق نوايا الاحتلال: فالاحتلال المهووس وجوديا بتملُّك جواب نهائي عن سؤال “شرعية احتلاله للأرض“، وجوابٍ مماثلٍ عن سؤال “أمن مجتمع الاستيطان الإحلالي“، بَدَا مُتظاهراً بالاستجابة للحل السلمي تحت الضغط الدولي، وبشكل أكبر تحت ضغط الانتفاضة الأولى (1987)، لأنه وعى من يومياتها أن الشعب الفلسطيني بركانٌ ثوريٌّ متجدد النشاط، صعبٌ توقعُ زمن انفجاراتِه، ما لم يحقق أحلامه المشروعة في التحرر والاستقلال؛ ولذلك تظاهر – عكس اعتقاده السياسي والديني المُعتَّق – بكونه مقتنع بأهمية البحث التفاوضي عن أَمْنٍ دائم للجميع، يتحقق بالتعايش لا بالحرب التي تدور وجودا وعدما مع وجود الاحتلال أو زواله.
- مُكْتَسَبُ انتزاع صك الاعتراف بمشروعية احتلال الأرض: لأن “إسرائيل” منذ أُنْشِئت، لم تنجح قبل “أوسلو” في امتلاك أي وثيقة قانونية تثبت وجود علاقة شرعية لها بالأرض، ولم تملك ما يمنح مجتمع الاستيطان الجاثم عليها عهد أمان أو سلام. لقد ظل أصحاب الأرض الأصليين رغم اعترافهم بخسارة بعض المعارك، يرفضون التسليم بخسارة الحرب، ويؤمنون بأن قَدَرَ قضيتهم العادلة أن تتوارثها الأجيال، حتى يأتي الجيل الذي سيكون ستارا للقَدَرِ، فيُحققَ التحرير والاستقلال. على الرغم من اقتناعهم باختلال موازين القوة العسكرية وموازين مكر السياسات الامبريالية الدولية لصالح المشروع الصهيوني، إلا أن الفلسطينيين ظلوا مؤمنين بحتمية ربح الحرب، ما لم يُشَرْعِنوا الاحتلال، وما لم يتخلوا عن سلاح مقاومتهم. أطاح نهج “أوسلو” بهذه العقيدة السياسية الصلبة التي ظلت لعقود عنوانا للكفاح الفلسطيني، ومنبعا لطاقة انحياز أحرار العالم لمظلوميته. تمت الخديعة بجعل تكافؤ الاعتراف بين الجانبين يتحقق باعتراف الطرف الفلسطيني ب”إسرائيل” وحقّها في الوجود، مقابلَ مجرد اعترافها بمنظمة التحرير ممثلًا للشعب الفلسطيني !
- مُكْتَسَبُ تصنيف المقاومة إرهابا والاحتلال استقلالا: لأن اتفاقات “أوسلو”، التي أضْفَت الشرعية على الاحتلال ومنحت الأمن لمجتمعه بتوقيع الضحية على صكِّها، غَسَلَت “إسرائيل” – بمداد التوقيع وفي ثوان معدودة – من تبعات سجِلِّ عقودٍ من الانتهاكات. لقد غيرت “أوسلو” مدلولات قاموس الصراع، فصارت “المقاومة” إرهابا و”الاحتلال” استقلالا. تخلى الفلسطيني في “أوسلو” عن بندقيته، لكن الصهيوني لم يتخل عن شيء من حلمه التوراتي بتهويد كامل فلسطين بالقوة. ليس هذا فحسب، بل لقد نسخت “أوسلو” ما قبلها من مواقف ومقررات أممية، وأعدمت المرجعيات والقرارات الدولية التي كانت – على ظلمها وانحيازها – قد منحت الفلسطينيين حوالي 45% من أرضهم في قرار التقسيم الشهير بتاريخ 29 نونبر 1947؛ مع التذكير بأن قرار التقسيم اشترط لقبول عضوية “إسرائيل” في منظمة الأمم المتحدة، إقامة الدولة الفلسطينية وعودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم على هذه النسبة من الأرض[1].
مُكْتَسَبُ تحويل الدولة الموعودة إلى واقع مستحيل التحقق: لأن الاعتراف بشرعيةِ الاحتلال وضمانِ أَمْنِه، أنشأ “حقَّه” في ملكيةٍ قانونيةٍ لحوالي 80% من الأرض التاريخية، مقابل وعدٍ بِمنْحه وهمَ دولةٍ على 20% المتبقية. ابتلاعُ طُعْمِ الوهمِ، بقاموس “مسلسل السلام” و”اللجنة الرباعية Quartet”، و”كبير المفاوضين”..إلخ، رسَّم تقسيمَ أراضي الدولة/السراب إلى ثلاثة مناطق: (أ)، (ب)، و(ج)؛ المنطقة (أ): (حوالي 18% وتشمل المدن الفلسطينية الكبرى باستثناء الخليل)، وتخضع للسيطرة المدنية والعسكرية الفلسطينية؛ المنطقة (ب): (حوالي 21% وتضم القرى الفلسطينية)،وتخضع مدنيا للسلطة الفلسطينية، وعسكريا ل”إسرائيل”. هذا الخداع التفاوضي مكَّن من الاستفراد ب (المنطقة ج): (حوالي 61% وتضم المجال غير المجزّأ من الأرض)، تحت سيطرة “إسرائيل” التي حولتها إلى وعاء عقاري مُسخّر لتنفيذ سياستها
[1] تقدمت إسرائيل بطلب الحصول على عضوية في الأمم المتحدة بتاريخ 15 مايو 1948، أي بعد يوم واحد من وثيقة إعلان قيامها، لكن الطلب لم يقبل من جانب مجلس الأمن. رفض مجلس الأمن طلبا ثانيا ل”إسرائيل” في 17 ديسمبر 1948 بأغلبية 5 أصوات مقابل صوت واحد مع امتناع 5 أعضاء عن التصويت. بعد فشل إسرائيل في طلبها الانضمام إلى الأمم المتحدة في خريف 1948، عادت وقدمت طلباً آخر في ربيع 1949. بعد التصويت (37 مع، 12 ضد، و9 ممتنع)، أصدرت الجمعية العمومية قرارها رقم 273 بتاريخ 11 مايو 1949 بقبول عضوية إسرائيل بناءً على إعلان إسرائيل بأنها «تقبل بدون تحفظ الالتزامات الواردة في ميثاق الأمم المتحدة وتتعهد بتطبيقها من اليوم الذي تصبح فيه عضواً في الأمم المتحدة» وبأنها تتعهد بتطبيق قرارا الجمعية الصادر 29 نوفمبر 1947 (قرار تقسيم فلسطين،) و11 ديسمبر 1948 (قرار حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وهذا ما لم يحدث لحد الآن.
[1] تقدمت إسرائيل بطلب الحصول على عضوية في الأمم المتحدة بتاريخ 15 مايو 1948، أي بعد يوم واحد من وثيقة إعلان قيامها، لكن الطلب لم يقبل من جانب مجلس الأمن. رفض مجلس الأمن طلبا ثانيا ل”إسرائيل” في 17 ديسمبر 1948 بأغلبية 5 أصوات مقابل صوت واحد مع امتناع 5 أعضاء عن التصويت. بعد فشل إسرائيل في طلبها الانضمام إلى الأمم المتحدة في خريف 1948، عادت وقدمت طلباً آخر في ربيع 1949. بعد التصويت (37 مع، 12 ضد، و9 ممتنع)، أصدرت الجمعية العمومية قرارها رقم 273 بتاريخ 11 مايو 1949 بقبول عضوية إسرائيل بناءً على إعلان إسرائيل بأنها «تقبل بدون تحفظ الالتزامات الواردة في ميثاق الأمم المتحدة وتتعهد بتطبيقها من اليوم الذي تصبح فيه عضواً في الأمم المتحدة» وبأنها تتعهد بتطبيق قرارا الجمعية الصادر 29 نوفمبر 1947 (قرار تقسيم فلسطين،) و11 ديسمبر 1948 (قرار حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وهذا ما لم يحدث لحد الآن.- الاستيطانية الرسمية. أما المناطق (أ) و(ب) فقد تم تحويلها إلى 224 “ﭼيتو فلسطيني” معزول بالحواجز، وبالمستوطنات، وبالجدار العازل، وبالطرق العنصرية المحرّمة على الفلسطينيين.
- مُكْتَسَبُ تعزيز قوة مجتمع الاستيطان دون مقاومة: لأن نهج “أوسلو” بات، بالنسبة للكيان الصهيوني، إطارا تفاوضيا يسمح بفرض واقع سياسات الاستيطان العنصري، بمرونة متعمّدة، مادامت مقاومة هذه السياسات ستواجه بالردع من سلطة “أوسلو” ومن سلطة الاحتلال؛ لذلك تناسَل المستوطنون في المنطقة (ج) بمعدل 14000 مستوطن سنويا، فتضاعف عددهم في الضفة من 121 ألف مهاجر من يهود العالم، عشية توقيع الاتفاق (1993)، إلى حوالي 800 ألف حاليا (2024). انتهت إذن خمس سنوات المحددة في الاتفاقات كأجل للحل النهائي وإعلان قيام الدولة/الوهم على حوالي 20% من فلسطين التاريخية، دون نتيجة؛ ثم انتهت ثلاثون سنة (ستة أضعاف مدة انتظار الحل النهائي !) ومات معها كل استدعاء لقاموس “أوسلو”، أو إحالة على اتفاقاتها لبحث مصير الالتزامات المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني. لقد ابتعد الواقع – الذي صنعه الخداع التفاوضي الصهيوني بالقوة – سنوات ضوئية عن سراب الآمال الخادعة التي أنعشتها الاتفاقات في نفوس فلسطينيي نهج “أوسلو”.
- مُكْتَسَبُ إسقاط التجريم الدولي عن الصهيونية كحركة عنصرية: لأن المفاوض الصهيوني اشترط في مؤتمر “مدريد/ 1991″، وقبل التوجه نحو “أوسلو/ 1993″،إلغاء القرار رقم 3379 الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 نونبر 1975، والذي نصّ على أنّ “الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري“، وطالب “جميع دول العالم بمقاومة الأيدولوجية الصهيونية التي تُشكّل خطرًا على الأمن والسلم العالميين“. القرار 3379 جاء نتيجة لحرب أكتوبر 1973 التي انتصرت فيها الجيوش النظامية العربية على “إسرائيل”، وتم فيها لأول مرة استعمال النفط كسلاح استراتيجي، فانتبه العالم لخطورة الصهيونية على السلم الدولي. أسقط التحضير ل”أوسلو” هذا القرار بموجب القرار 46/86 الصادر بتاريخ 16 ديسمبر 1991 بسطر واحد، نصّ على ما يلي: “تُقرّر الجمعية العامة نبذ الحكم الوارد في قرارها رقم 3379“. كان سقوط جدار برلين (9 نونبر1989)، والانقسام العربي بعد غزو العراق للكويت (2 غشت 1990)، عوامل مساعدة لتحقيق المطلب الصهيوني بإلغاء تجريم الصهيونية. أما الأمين العام للأمم المتحدة، الدكتور كورت فالدهايم الذي صدر القرار 3379 في عهده وبحرص منه، فقد طاردته الحركة الصهيونية بحجة عمله في الجيش الألماني “النازي”، وتعرّض للمقاطعة من الولايات المتحدة الأمريكية ومن الغرب، أثناء رئاسته لبلده النمسا (1986- 1992).
- مُكْتَسَبُ فك حصار الاعتراف الدولي ب”إسرائيل”: لأن اتفاقات “أوسلو” فتحت الباب على مصراعيه لرفع حالة المنبوذية الدولية عن دولة الاحتلال. لقد بدأ مسلسل الاعتراف ب”إسرائيل” يتصاعد منذ لحظة التوقيع؛ قبل “أوسلو” كان اعتراف الدول بمنظمة التحرير الفلسطينية أكثر عددا، وأشد انحيازا وانتصارا لمظلومية الشعب الفلسطيني، خاصة في ظروف الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي. في هذا المناخ أيضا نشأت مسوغات فتح باب التطبيع على مصراعيه بين الأنظمة الرسمية العربية والكيان الصهيوني، ثم تطور الوضع في اتجاه فك الارتباط مع المسألة الفلسطينية كقضية قومية وإنسانية للتحرر من استعمار عنصري يفتك بشعب مسلم وعربي، إلى أن وصل الحال إلى مقالب مأزق “اتفاقيات أبراهام”. لقد تم شق طريق خِداع “أوسلو” بنجاح، لأنه شَرْعَن الاحتلال، وقضى على فكرة الحل السلمي، وأضعف الطرف الفلسطيني المتخلي طوعا عن سلاحه. وخُتم المشهد السوريالي باغتيال الرجل الذي وقّع اتفاقات التسوية، فمات ياسر عرفات مسموما بعد حصاره الشهير في مبنى المقاطعة، وورثه فريق “أوسلو” على رأس سلطة لا سلطة لها.
- مُكْتَسَبُ تحويل السلطة الفلسطينية إلى جهاز وظيفي خادم للاحتلال: لأن الطرف الصهيوني استفاد أمنيا من دمج مؤسسات “سلطة أسلو” كُلِّيا في بِنيات التنسيق الأمني، الذي يعني حصريا الحرب المشتركة على أي فعل مقاوم. كما استفاد اقتصاديا – بناءً على اتفاقيات باريس (أبريل 1994) التي حددت العلاقات الاقتصادية بين المناطق “الخاضعة للسيطرة الفلسطينية” ودولة “إسرائيل” – من جعل الاقتصاد الفلسطيني تحت السيطرة الإسرائيلية. تواصلت الاتفاقات وتواصلت معها مكاسب الطرف الصهيوني ضد الطرف الفلسطيني: اتفاقيات “طابا” (1995 /أوسلو الثانية)، “كامب ديفيد” (2000)، إنشاء اللجنة الرباعية الدولية (2002/ مدريد)، “أنابوليس” (2007)؛ خلال هذا المسلسل جرى الانقلاب التام على كل شيء له صلة بتنفيذ التزامات “إسرائيل”. لقد صوَّرت “أوسلو” الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين كما لو أن الأمر يتعلق بصراع بين دولتين متكافئتين، فيما يواصل المجتمع الدولي تغذية هذا التماثل غير المنصف والمأساوي. لقد صارت “إسرائيل” بعد “أوسلو” أكثر عنصرية ونازية وإصرارا على إلغاء الشعب الفلسطيني من الوجود.
- مُكْتَسَبُ الاستثمار التشريعي في مكتسبات الخداع التفاوضي: وهو ما عَكَستْه السياسة التشريعية في “إسرائيل”، دون مواجهة فلسطينية أو دولية تُذكر. ففي عام 2018، أقر البرلمان الإسرائيلي قانونًا أساسيًا جديدًا بعنوان “إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي“، وتنص المادة الأولى منه على ما يلي: “إن ممارسة حق تقرير المصير القومي في دولة إسرائيل خاص بالشعب اليهودي حصريا“، وهو ما يعني إعدام فكرة وجود أي كيانية فلسطينية إلى جانب الكيان الصهيوني، بما في ذلك مجرد حكم ذاتي محدود الصلاحيات تحت سيادته؛ فيما تنص مادة أخرى على ما يلي: “تعتبر الدولة تطوير الاستيطان اليهودي هدفا وطنيا، وستعمل على تعزيز وتطوير مبادراتها من أجل تقويته” – وهو ما يعني التكريس الأبدي للحق في مصادرة أراضي الفلسطينيين، لتكريس دولة الفصل العنصري بمزيد من الاستيطان. وفي17 يوليوز 2024 اكتملت حلقات الرفض التشريعي لالتزامات الحل النهائي، بتصويت الكنيسيت على مقرر يقضي برفض قيام الدولة الفلسطينية. الخلاصة أن “أوسلو” وفرت غطاء الهيمنة والتهويد الشامل من النهر إلى البحر، لأن الأفق الاستراتيجي للخداع التفاوضي بات متطلعا لتهويد معنوي وهيمنة مماثلة، من المحيط إلى الخليج.
- ثانيا، بالنسبة للطرف الفلسطيني، يتأسس تقدير الخسائر الاستراتيجية ل “أوسلو”، على الاعتبارات الأربعة (4) التالية:
- خسائر ثقافية: لأن نهج “أوسلو” تأسس على ثلاثةِ أوهامٍ لدى الطرف الفلسطيني، تكشفُ خللاً ثقافيا جسيما يشبه في أعراضه مرضَيْ فقدان الذاكرة والمناعة معاً؛ هذه الأوهام هي: (أولا)، وهْمُ الاعتقاد بأن “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” يقبل أنصاف الحلول، وأنه تخلى عن خطيئة نشأته القومية العنصرية الاستيطانية الإحلالية، وقابلٌ أيضا للتخلي عن وظيفته الاستعمارية، ضمن مهام الشراكة التي تربطه عضويا بحاضنته الامبريالية الغربية بزعامة أمريكا؛ (ثانيا) وهم الاعتقاد بأن “حلّ الدولتين” قابل للحياة، في ظل مشروع صهيوني يؤمن توراتيا وتلموديا بأن تهديده الوجودي يكمن في وجود أي كيانية فلسطينية في “أرض الميعاد” إلى جواره، ولو في صورة حُكم ذاتي منزوع السيادة والصلاحيات التقريرية المصيرية؛ (ثالثا) وهم الاعتقاد بأن الدور الأمريكي يمكن أن لا ينحاز، خلافا لطبيعته التاريخية الامبريالية المتطلعة دوما للهيمنة على المنطقة والعالم، وأنه يمكن أن يكون عونا على السلام لاعتبارات أخلاقية أو إنسانية، علما بأن العقيدة المسيحية-الصهيونية لجُلِّ صناع القرار الأمريكي، لا تُخفي عقيدة الالتزام الديني بضمان تفوق الكيان الصهيوني، تحقيقا لنبوءات مسيحانية، ولمصالح جيوستراتيجية.
- خسائر استراتيجية: لأن الانخراط في اتفاقات “أوسلو” لم تكن في الحقيقة حلًّا نَبَعَ تشاوريا من إرادةٍ واسعةٍ لشعب يريد الانعتاق من الاحتلال، ولكنه استدراج لفخٍّ نُصب لجيل كامل من قيادات الصف الأول الفلسطيني، الذين أنهكتهم سنوات الكفاح المسلح في غياب عقيدة صلبة، وتآكل دور العمق العربي الحاضن، خاصة من دول الطوق؛ هؤلاء، وبدل أن يجددوا آليات الالتحام بالشعب الذي أطلق موجة كفاحية جديدة في انتفاضة 1987، التحموا في الاتجاه الخطأ بالمحتل، ووفق منظوره ،وشروطه، وإملاءاته. لقد أدى نهج أوسلو إلى إحداث شرخ عميق في عقيدة الكفاح الفلسطيني، ونشأ أول تشرذم فلسطيني من نوعه، بين من يريد المقاومة المسلحة لنيل الاستقلال، ومن يريد الاستقلال بالمفاوضات والمسلسلات السلمية. في غمرة هذا التشرذم، استثمر الاحتلال حصوله على الشرعية الفلسطينية والعربية والدولية، فقام بتوظيفها بشكل فعال لتصفية حقوق الشعب الفلسطيني، وترسيخ نظام “الأبارتايد“، وبلا مساحيق.
- خسائر سياسية: لأن الطرف الفلسطيني توجه نحو مفاوضات “أوسلو” بفريقين متشاكسَين: فريق “ياسر عرفات” الرسمي، يمثل السقف الأعلى للمواقف والمطالب، ويدير المفاوضات في واشنطن بقيادة حيدر عبد الشافي؛ وفريق “محمود عباس” غير الرسمي، يمثل السقف الأدنى، ويدير المفاوضات بسرية في “أوسلو”، دون علم الفريق الرسمي ودون تنسيق معه. أدى هذا الوضع لاستقالة المفاوض الرسمي بعد اكتشاف “خيانة” المفاوض غير الرسمي. لكن النتيجة الأسوأ لهذا الأداء السياسي المفكَّك، هي توقيع الاتفاق دون اشتراط وقف الاستيطان كما كان يصرّ على ذلك الوفد الفلسطيني الرسمي في واشنطن. تضخم المجتمع الصهيوني الاستيطاني المتسلل من فجوة هذا التفكك الفلسطيني، فأصبح المستوطنون في الضفة – بعد ثلاثين سنة من “أسلو”- كتلة سياسية عنصرية فاشية، لها دور حاسم في تشكيل وإسقاط الحكومات الإسرائيلية، لأنها باتت ممثلة ب 14 عضوًا في الكنيست الإسرائيلي.Haut du formulaireBas du formulaire
- خسائر مجتمعية: لأن القبول بمبدأ التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال، جعل “سلطة أوسلو” جهازا وظيفيا يعمل لصالح الاحتلال، وجزءا لا يتجزأ من منظومته الأمنية الحارسة لنظام فصله العنصري، وبلا تكاليف؛ وهو ما جعله عمليا في وضع تناقض جوهري ومواجهة مفتوحة (أولا) مع عموم الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، بسبب تدهور أوضاعه على كافة المستويات بعد “أوسلو”؛ و(ثانيا) مع قوى المقاومة الفلسطينية السياسية والمسلحة، التي صنع الاحتلال شروط ميلادها الجديد، بسبب سياساته العنصرية والاستيطانية، وانتهاك حقوق الفلسطينيين بلا هوادة؛ و(ثالثا) مع مكوّنات الشعب الفلسطيني في الداخل (فلسطينيو الأراضي المحتلة سنة 1948)، الذين تدهورت مواطنتهم الاسرائيلية أكثر، بسبب مآلات “أوسلو” المنتقصة من قيمة ووجود كل ما هو فلسطيني؛ (رابعا) مع مجتمع اللاجئين الفلسطينيين، الذين همّش فشل نهج “أوسلو” قضيتهم، وأصبح مطلب “عودة الشعب اللاجئ” أكثر استحالة من ذي قبل، لأن التنكر لحقوق الشعب غير اللاجئ باتت نهجا رسميا ل”إسرائيل”.
- في بيان كيف أجهز طوفان الأقصى على اتفاقات أوسلو وحرر الشعب الفلسطيني من أغلالها: تأسيسا على ما سبق، يمكن الجزم بأن طوفان الأقصى أجهز على اتفاقات “أوسلو” إجهازا استراتيجيا، وهو ما تثبته الاعتبارات التالية:
الإجهاز الثقافي للطوفان على مرتكزات الخداع التفاوضي ل”أوسلو”: حرر الطوفان الشعب الفلسطيني من إرث وتبعات الأوهام الثلاثة التي انطلت على المفاوض الفلسطيني قبل ثلاثين سنة في “أوسلو”، وأعاد الوعي الفلسطيني العام إلى أصل طبيعته، بإدراك أنه: (أولا) لا حلول وسط مع الصهيونية، ولا مع “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” المصمَّم لابتلاع كل فلسطين؛ وأن خيار المقاومة المسلحة هو الخيار الأوحد لاسترجاع الحقوق والدفاع عن الوجود؛ و(ثانيا) أن “حل الدولتين” مجرد خديعة تفاوضية، غايتها ربح الزمن لتحقيق الانقلاب الديمغرافي بالهجرة والاستيطان والتهجير، وأن الدولة الفلسطينية الموحدة هي البديل الأوحد للتعايش بعد تفكيك نظام الفصل العنصري الرافض لأي وجود فلسطيني؛ و(ثالثا) أن الوسيط الأمريكي لا يمكن أن يكون جزءا من الحل، لأنه كان دائما جزءا من المشكلة، لاعتبارات عقائدية ومصالح هيمنية إمبريالية، وأن الرهان على حياده أو عدالته لإنصاف الشعب الفلسطيني المظلوم، رهان غير عقلاني.
الإجهاز الاستراتيجي للطوفان على مرتكزات الخداع التفاوضي ل”أوسلو”: استرجع الفلسطينيون بالطوفان الثقة في أنفسهم كشعب قادر على مواصلة حرب التحرير، رغم الظروف الصعبة التي تحيط بهم وتجعل امتلاكهم لشروط المواجهة المتكافئة مع الاحتلال معدومة تماما؛ بسبب الحصار، وتفوق المحتل ماديا بشريا وتقنيا، وانكشاف الوجود الفلسطيني دون أي سند قومي رسمي أو دولي يدعم خيار حرب التحرير، بعد إفشال الاحتلال لخيار “السلام” على عِلَّاتِه. هذه الثقة بالنفس التي ولّدها الطوفان لدى الفرد الفلسطيني المحطَّم معنويا بنتائج نهج “أوسلو”، عالجت الشرخ الذي أنتجه هذا النهج، فاسترجعت العقيدة الكفاحية-التحررية عافيتها، وأصبح خيار المقاومة المسلحة من جديد عنوان فخر واعتزاز شعبي فلسطيني، لأن الطوفان تجلى في صورة بركان متفجر بالقوة لاسترجاع الكرامة، ولأنه نفسيا غسَل بالدم “عار نهج أسلو”، وأجهزَ على المكتسبات التي تَوَهَّمَ الاحتلال أبديتها، تثبيتا لنظام فصله العنصري، وكُفراً صريحا بالوجود الفلسطيني.
الإجهاز السياسي للطوفان على مرتكزات الخداع التفاوضي ل”أوسلو”: لأن مفاوِض الطوفان الفلسطيني شَطَبَ من ذاكرة الفلسطينيين صورة المفاوِض الفلسطيني المهزوم بنهج “أسلو”. (أولا)، لأنه في الوقت الذي كان مفاوِضُ 1993 منزوعَ السلاح، فإن مفاوضَ 2023-2024 يفاوض والمقاومة تُشهر سلاحها في وجه الاحتلال الآيِس من هزيمتها واستسلامها، رغم طول المواجهة المسلحة بينهما؛ و(ثانيا)، لأنه عندما كان الفريق المفاوض قبل ثلاثين سنة مُفكَّكا بين مفاوِض رسمي في واشنطن، ومفاوِضٍ “ضِرار” في أوسلو ، يتابع الشعب الفلسطيني مفاوضي مقاومته في القاهرة والدوحة، وهم يقفون صفا متراصا، أُفقُهم التحرري واضح من بياناتهم السياسية والعسكرية، رغم أنهم من فصائلَ متباينةٍ فكريا وسياسيا؛ (ثالثا)، لأن المفاوض الفلسطيني الذي أنتجه نهج أوسلو كان يفاوض بقيادة مفككة ومغتربة في تونس، وبما تبقى من مقاومة مسلحة موزعة في بعض البلاد العربية، بعد الخروج من لبنان (1982)؛ أما مفاوض الطوفان، فيفاوض من موقع الاشتباك التحرري المسلح، المندلع شعبيا على تراب فلسطين لأول مرة في تاريخ الصراع، والمشتعل عسكريا من حولها في معارك “وحدة الساحات”، والمُستعِرٌ عالميا على أكثر من جبهة وصعيد.
الإجهاز المجتمعي للطوفان على مرتكزات الخداع التفاوضي ل”أوسلو”: لأن الطوفان جسد لحظة انفجار نفسي بالأمل لا باليأس. توحَّد الفلسطينيون شعوريا كشعب مقهور بالتشرذم الذي صنعه نهج “أوسلو”، وأمدَّهم بطاقة تَوْقٍ جديدة للتحرر من عبوديات الاحتلال. لقد عالج الطوفان بالصدمة الصاعقة حالة التمزق والشروخ المجتمعية التي تفشت في الوجود الفلسطيني منذ 1993، بل وفي الوجود العربي والإسلامي والإنساني المنحاز لمظلومية فلسطين. من لحظة انفجار الطوفان في 7 أكتوبر، انتقل الشعور بالتمزق والتشرذم من الكيانية الفلسطينية إلى الكيانية الصهيونية، لأن الأفق التحرري للطوفان جعل الحواجز النفسية تتلاشى بين فلسطينيي الضفة وقطاع غزة، واسترجع فلسطينيو الداخل (1948) شعور الاعتزاز بالانتماء الأصلي لوجودٍ فلسطينيٍّ مشترك بالدم، وقابلٍ للتحقق بالفعل المقاوم المسلح؛ وفي بلدان اللجوء والشتات، انتعش الأمل، وتجددت الحماسة للكفاح من أجل العودة للوطن المحتل. في المقابل، نشطت الهجرة المضادة في مجتمع الاستيطان الصهيوني، ونشأت حركة نزوح داخلي من شمال فلسطين وجنوبها نحو الوسط، خوفا من حرائق حرب التحرير؛ وتشرذم المجتمع الصهيوني بين علمانييه ومتدينيه، ضد صناع أكبر كارثة وجودية في تاريخ الكيان. بكلمة، إن الطوفان غيَّر تَموقُع الشك الوجودي؛ لقد فارق الشك مشاعر مجتمع المقاومة، واستوطن في مشاعر مجتمع الاستيطان.
يتبع في المقالة الختامية 6/6 للبحث