الرشيديةمنبر الجهة8

الدكتور الحبيب الشوباني يكتب… المقالة الختامية (25) في بيان كيف َأَجْهَزَ طوفان الأقصى استراتيجيا على “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” (6/6)

بهذه المقالة نختم البحث الذي خصَّصناه لبناء سردية تاريخية مُحيَّنة، عالجنا فيه مأزق “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية”، كَحَلٍّ صُمِّم ونُفِّذ منذ نهاية القرن 19 ليكون علاجا أبديا لمسألةٍ تشكّلت كإفرازٍ مَرَضيٍّ سرطانيٍّ، عانت منه المجتمعات المسيحية الأوروبية جراء عدائها التاريخي للجماعات اليهودية. واستكمالا لما سبق، سيكون الختم باستعراض المؤشرين الأخيرين، لبيان كيف أجهز طوفان الأقصى استراتيجيا على “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية“. يتعلق الأمر بتفكيكه (ثامنا) لمقوِّمُ الربط السياسي- الاقتصادي-الترويجي بين “وعود السلم والازدهار الاقتصادي الإقليمي للجميع”، بريادة وقيادة دولة الاحتلال العنصري لمجموع الدول والمجتمعات العربية، وبين “اتفاقيات “أبراهام” التطبيعية” المفروضة صهيونيا وأمريكيا بالقوة والابتزاز، لتصفية القضية الفلسطينية؛ و(تاسعا) مقوم الربط الثقافي-الحضاري-الامبريالي بين “الحضارة المسيحية المعادية تاريخيا ودينيا لليهود“، وبين اختلاق وترويج مصطلح ومفهوم “الحضارة اليهودية – المسيحية civilisation judéochrétienne“؛

 

  • تفكيك الطوفان للعلاقة بين “وعود الازدهار الإقليمي للجميع” وبين “واقع التطهير العرقي والإبادة ضد الفلسطينيين”:
  1. في خطاب بنيامين نتنياهو بتاريخ 22 شتنبر 2023 من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها ال 78، أسبوعا قبل سبت انفجار طوفان الأقصى، رسم رئيس وزراء الكيان الصهيوني لوحة وردية للعيش في “الشرق الأوسط الجديد”. بشَّر نتنياهو العالم بقرب التطبيع مع المملكة العربية السعودية، وبشق قناة بن غوريون التي ستربط خط السكة الحديدية الممتد من الهند إلى أوروبا، مرورا بدول الخليج العربي وعبورا في فلسطين المحتلة التي اختفت نهائيا من خريطة الشرق الأوسط الجديد. كان الخطاب يوم الجمعة، ولذلك توجه نتنياهو ليستمتع بعطلته الدينية يوم السبت، فكتب في تلك الليلة بُعيد إلقاء خطابه في الأمم المتحدة، تغريدةً على حسابه على موقع إكس جاء فيها ما يلي: “إن أعظم إنجاز في حياتي هو أن أقاتل من أجلكم (الشعب الإسرائيلي) ومن أجل بلدنا. شابات شالوم.”
  2. بهذه التغريدة، جدد نتنياهو التأكيد على أن وقفته على المنصة الأممية لم تكن وقفةً للتبشير بالازدهار الإقليمي للجميع، في ظل شرق أوسط خال من الاستعمار والعنصرية والحرب والقتل والدمار، بل كانت وقفةً حربيةً تعلن الانتصار النهائي لمحارب يهودي يقاتل من أجل شعبه وبلده فقط، أي من أجل تهويد فلسطين بالإجهاز النهائي على كل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، في الحرية وإقامة دولته المستقلة. لقد شملت الخريطة التي أظهرها نتنياهو، مناطق ملوَّنة بالأخضر الداكن للأنظمة التي تربطها اتفاقات سلام مع “إسرائيل”، أو التي تجري سِرِّيا تحضيرات التطبيع معها، ضدا على إرادة شعوبها، بالضغط والابتزاز لإبرام اتفاقيات مماثلة. ضمن المناطق المكسية باللون الأخضر تظهر دول مصر، والسودان، والإمارات، والسعودية، والبحرين، والأردن؛ لم تشمل الخريطة أي ذكر لوجود دولة فلسطينية أو أراضي محتلة، لأن اللون الأزرق خُصِّص ل”إسرائيل” بالكامل، من البحر إلى النهر، في إعلان رسمي يقضي باعتبار الضفة الغربية وقطاع غزة جزءا أبديا من دولة اليهود.
  3. كانت المسؤولية الأممية والعربية والإسلامية تقتضي ساعتئذ التعامل مع “خطاب خريطة إعدام فلسطين“، بموقف حازم يمليه القانون الدولي وميثاق المنظمة، كما يمليه اعتبارهُ خطابَ إعلانِ حربٍ لا يمكن التنبؤ بخطورة مآلاته. لم يحدث شيء من ذلك على الإطلاق، مرَّ كل شيء وكأن إعلان تصفية الشعب الفلسطيني ومحو وجوده بجرة قلم، مجرد عملية ترسيم دولي لهذا الإعدام، لأنها مسألةٌ محسومةٌ بالقوة وحسابات الردع والسيطرة المسلحة. لكن الأهم سيحدث بعد أسبوعين بالضبط: يوم 7 أكتوبر 2023 قررت المقاومة الفلسطينية إطلاق حرب تحريرها الشعبية الثانية في شكل طوفان، وكأنها تردُّ به على الصهيوني المخادع، وعلى العالم الساكت أو المتواطئ مع خداعه. رسالة الطوفان كانت واضحة: تاريخ الخداع بأوسلو وبالمفاوضات انتهى، كما انتهى الخداع باتفاقيات السلام، وبخطاب الرفاه للجميع في ظل الاحتلال والتهويد الشامل لفلسطين. لم يكن لدى “إسرائيل” أي غموض في أن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” يعني التقدم حثيثا نحو “دولة يهودية خالصة عرقيا“، ولم يكن لديها شك بأن “حل الدولتين” مجرد مزحة سيتولى الزمن محوها من ذاكرة الأغبياء الذين صدَّقوا حكايتها؛ لأن خُطط الاستيطان، والتهجير نحو مصر والأردن، وحرب “السيوف الحديدية” التي سيتولى تنفيذها جيش الردع الذي لا يقهر، كفيلة بتحقيق الرفاه للجميع، مع أهمية تحديد مفهوم هذا “الجميع” تَوْراتيّاً: يقصد بالجميع توراتيا السادة اليهود، ومجموع شعوب المنطقة من “الغوييم”، باستثناء الشعب الفلسطيني.
  4. ككل حروب التحرير، يتأكد كل يوم من أيام زمن الطوفان بأن الكلفة الجسيمة التي تحمَّلها الشعب الفلسطيني منذ 7 أكتوبر حتى الآن، كانت في تصوُّر صناع قرار الطوفان متوقّعة بشكل كبير، لكنها كانت ضرورية كفاتورة وجودية لكشف هذا الخداع الاستراتيجي الصهيوني المتجدد، والعودة بالصراع مع الاحتلال والقهر الممنهج للشعب الفلسطيني منذ عقود، ومن نشوة خطاب الانتصار الوهمي النهائي من على المنصة الأممية، إلى حقائق الواقع الذي لا يرتفع؛ واقع الاحتلال بكل نازيته وفظاعاته التي يتابعها العالم بالصوت والصورة، والتي حوّلت مشاهد الإبادة الجارية في غزة إلى أعظم استثمار استراتيجي يمكن أن يتحمل تبعاته شعب مقهور يتوق للتحرر بالدم لا بالوهم؛ لأن هذا الاستثمار في الآن ذاته، هو أكبر استدراج حربي استراتيجي يمكن لأي مقاومة مشروعة أن تَجُرَّ به عدوَّها إلى مستنقع الاستنزاف بحرب التحرير؛ وسواء تعلق الأمر بتحمل كلفة حرب الإبادة، أو بكلفة الاستدراج لحرب الاستنزاف، فهما وجهان لسلاح واحد فتَّاك تصنع به الإرادة الإنسانية المقهورة أسباب انعتاقها من العبودية، وهي إرادة لابد منها للتفكيك المعنوي لأي كيان استيطاني عنصري، في أفق تفكيكه المادي، مهما امتلك من مقومات مقاومة هذا التفكيك. لقد أثبت طوفان الأقصى أنه أنجز مهمة التفكيك المعنوي بنجاح كبير لهذا الخداع الاستراتيجي، وبشكل مذهل في قوة صموده وفعاليته.
  • تفكيك الطوفان للعلاقة بين تاريخ “المسيحية المعادية لليهودية” وبين حقيقة الخداع بمفهوم “الحضارة اليهودية – المسيحية civilisation judéo-chrétienne“؛
  1. تاريخيا، ينطبق مصطلح “اليهودية المسيحية” فقط على المجتمعات المسيحية الأولى التي ظهرت في فلسطين كامتداد لليهودية، والتي منها تشكلت الجماعات المسيحية التي وُلدت الأمة المسيحية من روافدها. يتعلق الأمر بالمجتمعات التي وجدت تاريخيًا في الشرق الأوسط (بلاد الشام). لكن انتشار المسيحية في أوروبا ونشوء جماعات يهودية بها لاحقا، جعل اليهودية والمسيحية تعيشان في صراع لاهوتي عنيف، امتد لألفي عام من الكراهية المتبادلة وانعدام الثقة؛ لأن قانون الإيمان المسيحي مبني على نفي الإيمان اليهودي القديم منذ انفصاله عنه في القرن الأول الميلادي؛ في المقابل، ترفض اليهودية الرسالة المسيحية بقانونها الإيماني وبكافة عقائدها، وتعتبرها كفرا بالعقيدة الموسوية وخروجا عن دين “شعب الله المختار”! لذلك، وعند استعمال مصطلح “الحضارة”، فان “الحضارة الإغريقيةالرومانية civilisation gréco-romaine” هي التي يظل لها تراث ثقافي ومادي تراكمي عالمي كبير، يجعلها عنوانا للحضارة الأوروبية دون تعارض مع بعدها الديني المسيحي.
  2. وُلِد مصطلح “الحضارة اليهودية َالمسيحية” في القرن 19، على يد رجل الدين البروتستانتي الألماني فرديناند كريستيان باور (1792-1860) Ferdinand Christian Baur“. وقد انتشر هذا المصطلح تدريجيا ليَحْجُبَ مصطلح “الحضارة الإغريقية الرومانيةويسحبها في صمت إلى الخلف، نحو دائرة النسيان. لم يخترع C.Baur هذا المصطلح عندما استعمله لأول مرة عام 1831، بل استخرجه من المادة التي عثر عليها في فكر هيجل (1770-1831) Hegel، صاحب البنية النظرية الأصلية لهذا المفهوم/المصطلح، والذي أكد “أن اليهودية هي بداية الديناميكية التي تقود من تاريخ الأديان إلى تاريخ الحداثة عبر المسيحية[1].
  3. عند بدء استخدام المصطلح في ثمانينيات القرن 19، كانت العلمانية قد سيطرت على المجتمعات الأوروبية، ولذلك لم يكن مقصود الاستخدام يتجاوز مباحث الاتفاق والاختلاف بين “الأخلاق اليهودية la morale juive” والأخلاق المسيحيةla morale chrétienne، بغرض الوصول إلى “أخلاق يهودية -مسيحية morale judéo-chrétienne” مشتركة، تعزز التعايش المفقود تاريخيا بين اليهود والمسيحيين، والذي بسببه نشأت “المسألة اليهودية“. لذلك يرى البعض في استعمال المصطلح الجديد حرصا مسيحيا على التكفير الضمني عن ذنوب الاضطهاد لإراحة الضمائر من الجرائم الكثيرة المرتكبة في حق اليهود؛ فيما يرى البعض الآخر أن الأمر يتعلق بتكريس القيم الليبرالية والعلمانية، من خلال تجسير العلاقة بين الفكر العلماني والدين. لكن المهم هو أن المفهوم الذي يراد به وجود أخلاق مشتركة ومتجذرة بين التقاليد اليهودية والمسيحية، ظل بلا معنى وعلى نحو متزايد، بسبب السجل التاريخي المأساوي للعلاقة العدائية اللاهوتية بين اليهودية والمسيحية.
  4. سيحدث التحول النوعي في استعمال المصطلح، وعلى نطاق واسع، في سبعينيات القرن الماضي لثلاثة أسباب: (أولا) نشوءُ وعي مسيحي متأخر بمسؤولية المسيحية عن جرائم الإبادة الجماعية لليهود في الحرب العالمية الثانية، نتجت عنه الحاجة المُلِحَّة لاستئناف الحوار بين الأديان وبناء التفاهم بين جماعاتها ومجتمعاتها طلبا للسِّلم؛ و(ثانيا) حصول نوع من الاعتراف بمسؤولية المسيحية عن ولادة العداء العنصري الحديث لليهود، والذي يجمعُ مصطلحُ “العداء للسامية” تحت عباءته، العديد من مشمولاته؛ (ثالثا) الشعور بالمخاطر الناجمة عن تفشي وباء “الثورة الجنسية الفرويديةla révolution sexuelle Freudienne“، والبحث عن التمَتْرُس المشترك خلف “الأخلاق اليهودية المسيحية“، لصد هذا “العدوان غير الأخلاقي” على الدين بشكل عام.
  5. بعد محاولة إبادة جزء مهم من يهود أوروبا بالحل النازي للمسألة اليهودية، سُجِّل أول استخدام سياسي للمصطلح/المفهوم، وبشكل رسمي، في الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية؛ فالرئيس الأميركي المنتخب دوايت أيزنهاور Dwight Eisenhowerاستعمل المصطلح في خطاب عمومي ألقاه نهاية العام كانت الرسالة المطلوب تبليغها للرأي العام الغربي ولأعدائه، هي تقديم الغرب في صورة “كيان عقائدي يهودي مسيحي منسجم“، بإعلان دمج اليهود كجزء شرعي من المجتمع الغربي ضد النازية، والفاشية، و”معاداة السامية”، وحتى ضد الشيوعية، والاتحاد السوفييتي. لقد حصل الاستخدام الحديث لمصطلحٍ ظل يُستخدم أساساً لوصف الروابط التاريخية المأساوية بين اليهودية والمسيحية، وخاصة في العصور الوسطى التي كان فيها اليهود يعتبرون “أعداء الله بتصريح إقامةennemis de Dieu avec un permis de séjour “، بحسب تعبير المؤرخ الإنجليزي ريتشارد ساوترن Richard Southern، وهو التعبير الذي يتضمن التهديد الدائم بقرب انتهاء صلاحية التصريح، لمباشرة دورة جديدة من الطرد والاضطهاد! ففي أوروبا، وإلى حدود القرن التاسع عشر، كان اليهود دائما يُصنفون مع المسلمين باعتبارهم غير أوروبيين، بمعنى “ساميين” أو “شرقيين”.
  6. بعد نجاح الصهيونية كإيديولوجيا سياسية-عنصرية في توظيف اليهودية كدين في مشروعها الاستيطاني الإحلالي، من خلال تنظيمات وأحزاب الصهيونية الدينية؛ وبعد نجاحها أيضا في دفع الغرب المسيحي – رغم الاختلافات العقائدية الجوهرية والعداء التاريخي الصارخ بين الطرفين – لاعتماد مصطلح “الحضارة اليهوديةالمسيحية” في الصراعات السياسية الجيوستراتيجية، والتي تعني وضع هذه الحضارة في مقابل “الحضارة الاسلامية” أو “الحضارة الكونفشيوسية” ضمن منظور “صراع الحضاراتلصمويل هنتنغتون؛ تسعى الصهيونية الدينية من خلال الاندماج في مفهوم “الحضارة اليهوديةالمسيحية” لتحقيق هدفين كبيرين: (أولا) لجعل ملايين المسلمين في دول الغرب خارج دائرة الانتماء الحضاري الغربي، لتسهيل مهام الانتقاص من مواطنتهم وحقوقهم، وتبرير الحملات العدائية المتواصلة ضدهم، سواء في الاعلام أو من خلال التشريعات المعادية لثقافتهم الدينية؛ و(ثانيا) لتشريك المجتمعات المسيحية في المسؤولية عن جرائم المشروع الصهيوني في فلسطين، وإظهارهم كحلفاء عقائديين متحضرين ضد المسلمين المتوحشين، رغم أن الأمر يتعلق بإضفاء الشرعية على جرائم القتل والسرقة التي لا يقبلها الإنجيل وهو يوصي أتباعه: «لا تقتل، لا تسرق. ».
  7. استطاع طوفان الأقصى أن يلحق أضرارا جسيمة بحصيلة عقود من الاستثمار الفكري والسياسي والإعلامي للحركة الصهيونية، والتي سعت لجعل السردية الصهيونية جزءا لا يتجزأ من “سرديات الحضارة اليهودية المسيحية“. لقد نجح الطوفان في جعل الشعوب الغربية تؤمن بأن حرب الإبادة التي تجري أمام عينيه لا تُقِرُّها قِيمٌ دينية أو حضارية أو إنسانية يمكن للغرب أن يتبناها أو يدافع عنها، وأن توظيف الكيان الصهيوني لانتمائه إلى “الحضارة اليهودية المسيحية” تضليلٌ وخداعٌ سياسيٌّ ودينيٌّ يثير الاشمئزاز، الغاية منه تصوير “إسرائيل” بأنها تحارب في الخطوط الأمامية للدفاع عن “الحضارة اليهودية المسيحية” (النور)، ضد البربرية الإسلامية (الظلام). بعبارة أوضح، لقد كشف الطوفان للعالم الوجه الحقيقي لسياسات “الحلف الامبريالي الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري“، المُتخَفِّية خلف قناع ناعم في صورة “حلفٍ حضاريٍّ يهوديٍّ مسيحيٍّ” إنساني متحضر! يدل على الفشل في تمرير هذا الخداع، حجم الاحتجاجات التي تجتاح عواصم الغرب وجامعاته صانعةُ نخب المستقبل – واليهود فيها على وجه الخصوص- مناهَضةً لسياسات الحلف الغربي -الصهيوني، وتضامنا مع الشعب الفلسطيني المظلوم، ودعوة لتجريم الصهيونية كعقيدة عنصرية استعمارية، وفصلها عن اليهودية كدين. النتيجة الأهم لفعل الطوفان، هو أنه أضاف فصلا جديدا من فصول تسريع وتيرة أفول الغرب الذي ارتكب خطيئتين استراتيجيتين: (الأولى) بقبوله الانصياع لمكر العقل الصهيوني الذي أقنعه بوجود “حضارة يهودية مسيحية”، لا وجود لها في التاريخ بأي معنى من معاني التحضر المتعارف عليه إنسانيا، لأن الدينَيْنِ يحملان لبعضهما البعض عداء لاهوتيا مزمنا لا علاج له؛ و(الثانية) بقبوله الانصياع لمكر نفس العقل الصهيوني الذي أقنعه بأن “الصهيونية”، كعقيدة سياسية قومية عنصرية استيطانية إحلالية، جزءٌ لا يتجزأ من “الحضارة اليهودية المسيحية”، رغم بشاعة سِجلِّ جرائمها في تشريد وإبادة الشعب الفلسطيني. بهذا المعنى يكون الطوفان قد ساهم في تحقيق ما قصده الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفريMichel Onfrayفي كتابه: “الأفول: حياة وموت اليهوديةالمسيحية: من المسيح إلى بن لادن Décadence: Vie et mort du judéo-christianisme : de Jesus à Ben Laden، بقوله: “هذا الكتاب ليس متفائلا ولا متشائما، ولكنه مأساوي، لأنه في هذه الساعة، لم يعد الأمر يتعلق بالضحك أو بالبكاء، بل بالفهم Ce livre n’est ni optimiste ni pessimiste, mais tragique car, à cette heure, il ne s’agit plus de rire ou de pleurer, mais de comprendre.” [2]. لقد أفهمَ طوفان الأقصى الغربَ بطريقته وبأسلوبه، أن الكيان الصهيوني لا يمكن أن يكون خط دفاع عن “الحضارة اليهودية المسيحية”، لأن هذا المصطلح أصلا خديعة سياسية امبريالية، وهو ما جعل عقلاء اليهود اليوم يطالبون ب”الخروج” من الصهيونية كما “خرج” موسى من حكم الفرعون، وبتحطيم صنمها وعجلها الذهبي، كما حطم موسى عجل السامري وذرَّاه في البحر، بعد أن حرَّقه تحريقا؛ “لأن العديد من أبناء مجتمعنا يعودون لعبادة صنم زائف مجددا؛ لقد انخدعوا بِسِحْرِه، وأَسْكَرَهُمْ خمرُه، وتَدَنَّسوا بِرِجْسِهْ. إن هذا الصَّنَم المُزَيَّف يُعرف باسم الصهيونية”[3] ، حسب “نعومي كلاين Naomi Klein“، الصحفية اليهودية الكندية، والمخرجة والناقدة للفاشية والرأسمالية وعولمة الشركات.

انتهى البحث بهذه المقالة الختامية

___________________________________________________________________________________________

[1] Michel Onfray, Décadence : Vie et mort du judéo-christianisme : de Jesus à Ben Laden, Flammarion, Paris, 2017.

[1] Naomi Klein, We need an exodus from Zionism, in : https://www.theguardian.com/commentisfree/2024/apr/24/zionism-seder-protest-new-york-gaza-israel.

 

مقالات ذات صلة

Back to top button
error: Content is protected !!

Adblock Detected

يجب عليك تعطيل مانع الإعلانات - Ad Block أو عدم إغلاق الإعلان بسرعة حتى يمكنك الإطلاع على المحتوى