عبد العزيز الدريج يكتب ..الشعر الغنائي الأمازيغي وتجليات الإبدا
لقد واكب الشعر حياة القبائل الأمازيغية ولزمها في مناسباتهم واحتفالاتهم وأعيادهم وكذا في أعمالهم الفلاحية وحرفهم اليدوية ، فاعتمدوا فيه نظمه على الارتجال وسرعة البديهة مع مراعاة السياق العام لقوله واستعراضه، وهو المنقول عبر الذاكرة الفردية والجماعية للأشخاص والمتوارث عبر الأجيال. وهو تراث موغل في القدم وغني في حمولته الفكرية والثقافية . إنه بمثابة مؤسسة اجتماعية لها طقوسها الخاصة وبنية دالة ملتحمة موضوعها الأساس معالجة قضايا الهوية في تفاعلها على محك الغيرية. إنه أدب يصدر من شخص خبر دروب النظم ومدائنه، وخاض بحوره ولججه وعوالمه، وينساب شعره للفهوم في حسن سبك يجلي عن النفوس صدأ الغموم و ظلم الهموم، وخوف الغيوم، فيقدم للقبيلة في قالب يسر الناظرين:
هو الشعـر للأكفاء شهدته تحلو*** إذا صاغه من كنز باعثه الفحل
فينــــــــــساق عذبا للفهوم كأنما** بأثنائه تلقي مجاجتها النحل
وأحسنه ما ليس فيه تكلف * على حسن سبك فهو ممتنع سهل
لكن الشعر لا يبقى حبيس مبدعه بل سرعان ما ينتقل إلى جماعة المستمعين الذين يتلقونه وينقلونه إلى غيرهم، فيتلاشى ويسقط مع هذا النقل اسم المبدع الأول، فيتم تداوله غير مقترن باسم وصفة صاحبه وبالتالي يصبح ملك الذاكرة الجماعية للقبيلة. وهي المرحلة التي تحرف فيها معانيه وتلحن ألفاظه ما بين زيادة ونقصان، أو تحريف وتصحييف. وهذا ما جعل الإبداعات الأمازيغية تتداول بصيغ وأوجه متعددة، تختلف من شخص لأخر ومن قبيلة إلى أخرى، وقد هيمنت سمة الشفهية على الشعر الأمازيغي لأسباب عدة يتداخل فيها ما هو إيديولوجي، وما هو سوسيوثقافي .. لكن ما قيل من شعر شفهي بلسان أمازيغي لا يقل أهمية عن نظيره العربي رغم ما قيل وما كتب عن هذا الأخير من عبارات أسبل فيها الإثراء وبلغ فيها التمجيد والتقديس كل مبلغ يقدر عليه القادر. وهناك من يصفه بالمعجزة العربية . وإن قضية شفوية الأدب لم تقتصر على الثقافة الأمازيغية فحسب بل عرفت عند حضارات سابقة بلغت من العطاء قمته ومن الإنتاج الفكري والعلمي ذروته كالحضارة اليونانية والحضارة العربية التي لم يصلنا من نتاجها الشعري سوى النزر القليل. فضلا عن كون البعد الشفوي مسار وقنطرة عبور نحو التقعيد والتدوين المنظم والمرتب. ويحضر الشعر الغنائي الأمازيغي في الأعراس بشكل وصورة كبيرة خصوصا في حوض دادس امكون و يواكبها في مختلف مراحلها وأشواطها، بدءا بتزيين العروس إلى آخر مرحلة تزف فيها إلى زوجها، وهذا الشعر يتخذ من رقصة أحيدوس قالبا له وشكلا فولكلوريا فريدا يسم مناطق الأطلس المتوسط وحوض دادس امكون، مبنيا على رقصات وأنغام تؤدى بشكل جماعي تمتاز بسرعة حركاتها وإيقاعاتها المتناغمة. ويسهم فيها عدد وافر من الرجال والنساء على حد سواء، يجعلون من فضاء شاسع مسرحا لنظم الكلام، وملاذا للتنافس بالكلمة الموزونة التي بواسطتها يفرض الشاعر هيبته ويبرز موهبته في حياكة الكلام وانتقاء المعاني ليعقدها على شكل رسائل ودلالات ورموز تعبيرية في تيمات متنوعة تعبر عن القيم السائدة في المنطقة
إن رقصة أحيدوس تتطلب توفر مجموعة من الشروط المعبرة عن قداستها ومكانتها السامية في قلوب سكان المنطقة، ولا يقبل أي تطفل من الذين لا يجيدون أسرارها وقواعدها، ومن بين هذه الشروط على سبيل الذكر لا الحصر :الزي التقليدي الموحد من جلابيب ونعال( البلغة/ إكوربين) ومحافظ جلدية تقليدية أو ما يسمى ( أقراب) والخناجر( توزالت) في صفوف الذكور ، أما الإناث فيرتدين ملابس محلية ويتزين بأسوار وعقود اللوبان والدمالج الفضية، وفيما يخص الآلات الموسيقية فغالبا ما يعتمد فيها على الدف أو البندير الذي يقتصر على الرجال دون النساء. علاوة على الخفة في أداء الحركات والانسجام التام بين أعضاء المجموعة فينقسم الموكب إلى صف خاص بالذكور وآخر خاص بالنساء. يستهل العرض الشعري الغنائي بنداء مطول يتكلف به قائد المجموعة الذي يتم انتقاؤه وفق معايير متفق عليها سلفا ولعل أبرزها : جمال الصوت وعذوبته وجهوريته، وكذا الإلمام بقواعد فن أحيدوس، ثم الخفة والرشاقة … متبوعا بصدر وتتمة البيت الشعري تشارك في أدائه جماعة الذكور ، لتتاح الفرصة للنساء اللواتي يكررن البيت الشعري الأول من بداية إلى نهاية العرض الغنائي، في حين تكون مهمة تغيير الأبيات الشعرية أو الإتيان بما يصطلح عليه بالتعبير المحلي:( إمخلفن) منوطة بمايسترو المجموعة الذي يتقاسمها مع رفاقه من الذكور مستغلين فترة ترديد النساء للشطر الأول لتقاسم كلمات المقطع الموالي بما يقتضيه الأمر من نباهة وتركيز وقوة الذاكرة.
وقد نجد فرقا تخرج عن هذا الإطار والنسق المعهود، والأداء المألوف والمعتاد للأشعار إلى أشكال أشبه ما تكون بعروض مسرحية تحط فيها فنون الأداء ثقلها، فيتحول القائد والمايسترو إلى ملهم للمجوعة يعمل الآخروا على اقتفاء أثره والسير على منواله من أجل رسم المسار لحركات إبداعية متناغمة تتسم بالدقة والخفة وقوة التركيز مع ترديد بعض الأشعار والأهازيج التي لها من الحمولة الفكرية الشيء الكثير. ولعل ما تقوم به فرقة تزويت لفن أحيدوس والمتضمنة لخيرة من شباب المنطقة الذين علا كعبهم في مجال الشعر الغنائي خير دليل على ذلك. إذ بصموا على مشاركات عديدة داخل وخارج أرض الوطن فمتحوا من تراث المنطقة ما يزخر به من أدب شعبي وعادات وتقاليد رصينة. فحولوها إلى سمفونيات تستهوي الكبير والصغير.
ومن الأنواع الشعرية التي نجدها كذلك في الأعراس ما يسمى ب: وارو ، أو هيرو وهذا النوع أثناء تزيين العروس النساء أهازيج ونغمات عل مقام وإيقاع موسيقي حزين، غالبا ما يستهل البسلة والتضرع إلى الله بالدعاء، ثم تختتم بالحديث عن صفات وشيم العروسة والعريس ، راجين لهما حياة زوجية سعيدة وحثهما على الصبر والتفاني في العمل.