عبد الرحيم دحاوي يكتب .. الثقافة الشعبية وسؤال الرؤية ( مقدمة لكتاب جماعي حول الثقافة الشعبية من إصدار جمعية حد الصايم )

لا تقتصر الثقافة الشعبية على مختلف أنواع اللباس والمأكل والمسكن وطرق التعبير عن الفرح والحزن وطقوس الدفن ومراسم الزواج، وغير ذلك من مظاهر الحياة في مختلف جوانبها؛ بل إنها، مع ذلك كله وقبله، طريقة رؤية الأشياء والحكم عليها ، وهي معيار محدد للسلوك و للانتماء و للإقصاء أيضا. هذا التعريف الذي يبدو موسعا للثقافة الشعبية يطرح إشكالا نظريا وابستمولوجيا في غاية الأهمية ، ذلك أن النظر إلى الثقافة الشعبية باعتبارها تمظهرها سلوكيا أو تعميما لتجربة (الأمثال الشعبية) يجعلها تتقاطع مع الثقافة العالمة تكاملا أو تناقضا وربما تضادا أيضا.
هذه العلاقة بين الثقافة الشعبية والثقافة العالمة، جعلت الأولى في كثير من الأحيان محط ازدراء وتنقيص، وهو ما جعل الكثيرين يرفضون دراستها وإعطائها مكانا في الدرس الجامعي إلى زمن ليس بالبعيد. وهنا ينبغي التمييز، أولا، بين الثقافة الشعبية وبين ثقافة الإعلام الجماهيري التي أضحت تعبر عما هو مشاع بفعل وسائل التواصل الاجتماعي( إيلا شوحيط وروبير ستام، المركزية الأوربية بين المسلمات والتفكيك، 2019)؛ والتمييز ،ثانيا، بين ما كان يعرف بالثقافة الراقية أو الأدب الراقي وبين الثقافة الشعبية خاصة في الأدب الإنجليزي. ونشير إلى أن الدافع إلى هذا التمييز أن بعض أشكال الثقافة الشعبية في المغرب كانت نتاج الطبقة الأرستقراطية والطبقة الحرفية إذا سمحنا لأنفسنا بتوظيف هذا المصطلح وإن بتجاوز حدوده التاريخية؛ وهو ما يعني أن الثقافة الشعبية تفهم في علاقتها بالثقافة العالمة بصرف النظر عن الوضع الاجتماعي لقائلها.
الحاصل مما سبق أن الثقافة الشعبية، كانت في أغلب الأحيان، تفريعا عن ثقافة عامة، وحتى الدعوة إلى الاعتراف التي أطلقها هيغل في إطار الدولة الوطنية لم تتجاوز هذا الأفق. هذه العلاقة التراتبية لم تظل حكرا على التشكيلات الثقافية المنتمية لمجتمع معين، بل إنها كانت أيضا إطارا للتمييز بين ثقافات تدعي الكونية وحق نقل وربما فرض رؤيتها الثقافية والحضارية على الآخر حسب تسويغ الثقافة ذاتها، و”شرعنة” القوة الصلبة أو الناعمة أو هما معا. لكن الاهتزازات التي بدأت تصيب النموذج الحالي الساعي إلى الكونية من داخله ومن خارجه، جعلت من الثابت النظر إلى الثقافات باعتبارها متساوية، بل وإن الثقافات التي لطالما لحقها التهميش، أصبحت تحاول الانتصاف لنفسها والدفاع عن مقوماتها في إطار خطاب ما بعد الكولنيالية بمختلف تلويناته.
في هذا الإطار، لم يكن من شأن الربط بين الثقافة الشعبية والذات، إلا الدفاع عن مختلف مكوناتها وتمظهراتها، وأصبح من غير المقبول انتقادها بناء على المبادئ الكونية التي آمنت بها الإنسانية ودافعت عنها من قبيل العقلانية ، والتدبير السلمي للخلاف وغير ذلك. لقد أضحت الصيحات أكثر من الآذان المستمعة، وأصبح الباحثون عن المشترك والإنساني والكوني “مؤذنون في مالطة” خفتت أصواتهم وأصبحت متهمة بكل الويلات والخيبات التي تذوقتها الإنسانية في مسارها المشترك، أو في انفلاتاتها: من يجرؤ اليوم على انتقاد طقوس حتى وإن كانت بدائية تعكس سير الإنسان نحو ما هو عليه؟
بناء على ما قيل؛ يعد من اللازم على كل مهتم بالثقافة الشعبية توضيح منطلقاته ومهاده النظري، والانتباه إلى عدة محاذير، وإلا سقطت مقاربته- بوعي أو بدونه- في تعصب أعمى أو دعوة إلى العودة إلى مرحلة إنسانية يجب أن تطوى من غير رجعة. لقد أصبح من الضروري أن نقر اليوم، وبكل الجرأة الضرورية وبعيدا عن الحكم على الماضي بأعين الحاضر، أن الكثير من مظاهر الثقافة الشعبية وأشكالها التعبيرية تعكس هوة سحيقة بين رؤيتها للإنسان وحقوقه، وبين ما انتهت إليه البشرية اليوم في حقوق الإنسان المتفق عليها والتي من شأن التمتع بها حفظ كرامة الإنسان. لذلك؛ فإن مقاربة الثقافة الشعبية يجب أن ترتكز في البداية على الفهم من حيث هو كشف الظاهر والمخفي في الأشكال التعبيرية والمظاهر الثقافية داخل السياق الذي أنتجها وتحصن بها بعيدا عن تضخيم الذات أو ازدرائها؛ ثم النظر، بعد ذلك، في الثقافة الشعبية في ضوء الثقافة العالمة المتصالحة مع العصر والقادرة على إخراجنا إلى عالم أرحب. بتعبير أكثر وضوحا لا ينبغي الاهتمام بالثقافة الشعبية لإثبات انتماء يفتت العرى، ويعزل الذات عن شرطها الإنساني والكوني والوطني قبل ذلك. إن العلاقة بين الخاص والعام، بين المحلي والكوني هي علاقة إغناء وبحث عن السدى الجامع؛ أو هكذا يجب أن تكون.
ولعل نسج السدى الجامع أو المحافظة عليه وتقويته، تستلزم الفهم بالمعنى المتحدث عنه آنفا، وتتطلب التجاوز أيضا بالمعنى الهايدغري للكلمة؛ إذ لا تجاوز إلا بعد استيعاب. فعلي سبيل المثال عندما نعود إلى دراسة المزارات الطبيعية أو البشرية والتبرك بها، لا يعني الأمر إثبات شيء، وإنما فهم الإنسان في علاقته بأرضه، والوقوف على بنيته الفكرية في علاقته بذاته وبالله وبالطبيعة. بمعنى أنه لا ينبغي أن تأخدنا العودة إلى أن نرى أنفسنا تتحدد فقط بما كان أو على الأقل ببعضه فحسب متناسين رحابة التجربة الإنسانية في مسيرها إلى ماهي عليه اليوم.
قد يبدو الكلام السابق أحيانا عاما وقد يكون غير مفهوم تنقصه أمثلة، وقد يجد البعض فيه ما يجعله يرفضه جملة وتفصيلا؛ لذلك سنتخلص من تحفظ المقدمات وعموميتها ونتساءل: ألا توجد في بعض الأشكال التعبيرية في ثقافتنا الشعبية مظاهر عنصرية وعرقية وتمركزا على القبيلة كان له ما يبرره ،في حينه، لكنه أضحى اليوم مانعا من كل تقدم؟ (نحيل، مثلا، على كتاب : LE MAROC noir Choukri EL HAMAL; 2019 ).
الجواب واضح لكن مع هذا، أدعو القارئ الكريم إلى العودة إلى ثقافتنا الشعبية، وأن يبحث فيها عن جواب للسؤال الموجع أعلاه، وأن يفكر في الطفل المغربي الذي تلقى هذه الثقافة ، ثم علمناه فيما بعد أن الناس متساوون في الحقوق وأن لا فضل لهذا على ذاك كما تنص المواثيق الدولية على ذلك. كيف للطفل أن يجمع النقائض ما لم يفهم ويتجاوز، أي أن يستوعب، والاستيعاب هنا فهم وتفهم وتخلية بلغة أصحاب السلوك؟. لا أخفي أنني أوردت المصطلح الأخير قصدا لأعبر من خلاله إلى التصوف ، ولأظهر أن التصوف الطرقي هو من مظاهر الثقافة الشعبية ومن ورافدها في الآن ذاته لجمعه بين النصوص المؤسسة والسلوك بصرف النظر عن العلاقة بينهما.
تأسيسا على هذه الشواغل الفكرية، وعلى هذه الرؤية، بالإضافة إلى سياق محلي مرتبط بحركية نضالية تفهم في إطار فيضان بوذنيب وما يقتضيه من بحث عن مشترك وجداني؛ جاء تنظيم مهرجان الثقافة الشعبية للواحات، وإصدار المجلة الناطقة باسمه منذ سنة2012 باعتبارهما إسهاما في جمع التراث قصد دراسته واستثماره – تثمينا أو تجاوزا- في إحداث تنمية حقيقية في المنطقة بعيدا عن فكرة الفلكلرة التي تبضع الثقافة الشعبية، وتعتبر الإنسان كائنا بدائيا يتلمس طريقه في كهف مظلم. إن القصد هو النظر الموضوعي إلى الذات وتشكلها عبر التاريخ، وإقامة حوار مستمر بين روافد الثقافة المغربية( الثقافة الشعبية بمختلف روافدها، والثقافات العالمة المتساكنة ). ليست العملية سهلة، كما أنها ليست ترفا فكريا ولا بكاء على الأطلال، إنها عملية ضرورية للحد من الهوة الملحوظة بين سجلات ثقافية تتعايش فيما بينها، وتتناوب في الظهور؛ و هوما يجعل الذات تفتقد إلى الإنسجام المطلوب وتعكس فجوة بين القول والفعل.
عبد الرحيم دحاوي رئيس جمعية حد الصايم
ومدير مهرجان الثقافة الشعبية للواحات