طوفان الأقصى: أسباب النِّزالْ.. حتميات المآلْ.. وواجبات الحالْ..

د. الحبيب شوباني
في واجبات الحال.. الفردية والجماعية (4/4)
بعد الاستهلال وبيان أولوية الوعي بجذور نزال طوفان الأقصى، وبعد استعراض المآلات الراجحة لهذا الحدث التاريخي الفريد في كل تداعياته، نختم مقالتنا بقول ما يفرضه الحال من واجبات على المستوى الفردي والجماعي والمؤسسي، تنبيها على أهمية التموقع في الجانب الصحيح من حركة التاريخ، والعمل الإرادي لتعزيز التحول الجوهري الجاري عالميا في الوعي السياسي للشعوب، وفي موازين الإرادة والقوة والفعل، نصرة للشعب الفلسطيني المظلوم، ومواجهة لمشروع صهيوني يشكل بحثه عن “مكان تحت الشمس” تناقضا وجوديا مع أمن واستقرار وازدهار دول وشعوب الأمة الإسلامية؛ وبالنتيجة، خطرا مؤكدا على السلم الدولي المستحيل تشييده دون قيم إنسانية مشتركة، وتعاقدات قانونية ملزمة، تجعل المجتمع الدولي نصيرا لكل شعب يقاوم الاحتلال، وظهيرا لا يتساهل مع مرتكبي جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، وجرائم العدوان (حسب قاموس واختصاصات المحكمة الجنائية الدولية).
وفيما يلي بيان بعض الواجبات التي تجعل كل ذي ضمير سَوِيٍّ يقف الموقف الصحيح من طوفان الأقصى، ويتحرك في مربع الفعل المسؤول والمؤثر في حركة التاريخ ضد الإفساد والعُلُوِّ والطغيان :
- بالنسبة للأفراد والتنظيمات وصناع الرأي: من أوجب الواجبات أداء فريضة الانخراط المسؤول، واستفراغ الوسع بما يقتضيه حجم وبشاعة العدوان، لدعم دينامية طوفان الأقصى كحالة إنسانية تحررية، بكل ما يتاح من وسائل وأسباب الغيب والشهادة، ومن ذلك على سبيل الذكر لا الحصر:
- الدعاء: الدعاء سلاح كل مؤمن ومؤمنة بالله، يلجآن إليه في السراء والضراء والخُلوة والجُلوة؛ وهو مطلوب آناء الليل وأطراف النهار لاستمداد الصبر والثبات للشعب الفلسطيني المظلوم، واستنزال النصر لمقاومته العتيدة، واستمطار الرحمة لشهدائه الأبرار؛ ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(10)﴾/ الأنفال.
- التعبير السلمي عن الاحتجاج والغضب: إن المشاركة في الفعاليات الاحتجاجية الغاضبة ضد عدوان الكيان العبري للمطالبة بوقف جرائمه، أو ضد التطبيع للبراءة منه وإسقاطه شعبيا، عمل مطلوب وفعال، لأنه يُسمع صوت الشعوب المنددة بالإجرام الصهيوني النازي، ويشجع الحكومات المستاءة والمحرجة من هذا الاجرام لإسقاط التطبيع رسميا، حرصا على أمن أوطانها واستقرارها بعدم التصادم مع مشاعر شعوبها، كما يشجعها على افتكاك إرادتها من أسر قيوده التي حوّلها الكيان عمليا إلى غطاء وتحالف يستقوي به على المدنيين تقتيلا وإبادة؛ كما أن التعبير الاحتجاجي الغاضب يعتبر مساهمة مؤثرة في صناعة رأي عام إنساني يدين الكيان الصهيوني كونيا، ويضعف المطبعين اقتصاديا وسياسيا وأخلاقيا، ويصم بالعار مواقف داعمي ومناصري همجيته في الحكومات والمؤسسات الدولية.
- نشر الوعي بمخاطر المشروع الصهيوني: إن المبادرات والإبداعات الفكرية والثقافية والفنية التي تستثمر في التعريف ببشاعة وقبح الكيان الصهيوني وجرائمه ضد الإنسانية، نضال مطلوب وأساسي لإنعاش الوعي الفردي بهدف تمنيعه وتلقيحه ضد سياسات الاختراق التطبيعي؛ ولتجديد فهم طبيعة المشروع الصهيوني وخطره على علاقات حسن الجوار والتعاون والتكامل بين دول وشعوب الفضاء الحضاري الإسلامي، وعلى السلم المجتمعي والجبهة الداخلية لكل قطر من أقطاره؛ وهو وعي لا غنى عن تعزيزه وتقويته لمحاصرة هذا الخطر الجدي المتسلل سابقا تحت لافتات ودعاوى التعايش والسلام، والمتوغل حاليا عبر مشاريع التطبيع وشراكاته التي لا تستثني مجالا من المجالات.
- نشر الوعي بطبيعة المهام التحررية العالمية للمقاومة الفلسطينية: إن المواجهة التي فجرها طوفان الأقصى ليست صراعا حديثا أنشأته دوافع عرقية أو دينية أو قومية، بل هي حلقة من حلقات صراع حضاري مُزمنٌ ومفروض بالسلاح – منذ انهيار الخلافة العثمانية كنظام سياسي إسلامي جامع – من طرف القوى الإمبريالية وقاعدتها الوظيفية المُنشَأة في قلب الأمة (إسرائيل)؛ طبعا، غاية الإنشاء هي استدامة السيطرة الاستعمارية على ثرواتها، والهيمنة السياسية على شعوبها لمنع وحدتها وتكاملها؛ وبالنتيجة، استدامة مقومات نظام عالمي غير عادل تكرَّس بعد الحرب العالمية الثانية، تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وتؤجج في ظله حروبها الظالمة لتطيح بالدول وتحصد الملايين من البشر في مختلف القارات (الفيتنام، الوسنة، العراق، أفغانستان، رواندا، ليبيا، أوكرانيا،..). لذلك، فإن كل جهد يبني وينشر الوعي بالمهام التاريخية التحررية العالمية للمقاومة الفلسطينية، مطلوب لتفنيد الأطروحات السطحية أو التضليلية التي تسعى لتحميلها مسؤولية مآلات الطوفان، وكأن المشكلة ليست في الاحتلال ومخططات الهيمنة والإخضاع الامبريالي، بل في مقاومتهما وإفشال سعيهما.. !
- نشر ثقافة اليقين بحتمية انكسار المشروع الصهيوني: تشكل الحرب النفسية أخطر الحروب التي تمهد للهزيمة أو النصر بحسب كسْبِ كل طرف فيها. وقد تأكد من أول يوم في معركة الطوفان فشل الاستثمار الكبير من طرف الكيان الصهيوني ومن يدعمه، لصناعة وتعميم الأخبار التي تنسف الصورة الأخلاقية للمقاومة كحركة تحررية، وتكريس صورتها كحركة داعشية إرهابية تقتل وتذبح الأطفال والنساء؛ تلا ذلك، اعتماد سياسة التقتيل والإبادة الهمجية لتكريس حالة اليأس والإحباط والتخويف من مآلات مواجهة آلة الحرب الصهيونية، نتيجة “اختلال موازين القوة” لصالحها، وبالتالي استحالة انتصار الشعب الفلسطيني ومقاومته في هذه المنازلة التاريخية. لأجل ذلك، فإن كل عمل أو مبادرة يصنعان الثقة في حتمية انتصار الشعب الفلسطيني ومقاومته البطولية، نتيجة “اختلال موازين الحق” لصالح قضيتهما العادلة؛ وكذا كل إبداع واجتهاد يقْلبان مشاهد التقتيل والإبادة لاستبشاع صورة مرتكبيها في العالم وتسويد وجوههم، يصبح واجبا تتحقق به غاية إنزال الهزيمة والإفلاس بالاستثمار الصهيوني – الأمريكي في هذه الحرب النفسية الخاسرة سلفا، لاعتبارات أخلاقية حاسمة.
- نشر الوعي بالمنهج الذي صنع التفوق الفلسطيني: شكلت معركة طوفان الأقصى لحظة تفوق تاريخي لعبقرية العقل الفلسطيني ولإرادته التحررية، إعدادا وتخطيطا وتنفيذا واستبسالا في المقاومة، من أجل هزِّ العالم ولفت أنظاره لمظلوميته المتقادمة، والتي يسعى الاحتلال وشركاؤه لكتم أنفاسها للأبد. وبالنظر إلى أن هذا الإنجاز تم في ظل حصار شامل ومطبق، تتعذر معه الحياة في أبسط مظاهرها، فإن في هذا التفوق الفلسطيني ما يجب أن يكون محط فحص ودراسة واعتبار، لفهم قوانين صناعة الإنسان الذي يتفوق ويصنع إنجازات خارقة في أسوأ الظروف، وفي محيط معادي حد الاختناق، لتحقيق أهدافه المشروعة وبالطرق المشروعة. وهذا العمل النوعي من أجَلِّ ما يجب أن يتصدى له كل ذي اختصاص واستطاعة، لتعزيز الوعي بأهمية هذا النموذج الفلسطيني للتفوق في الأخذ بالأسباب، وتحقيق الأهداف المرسومة في أي مجال يرفع فيه الإنسان أو أي جماعة بشرية تحدي الوجود والممانعة، أو الريادة والتفوق.
- القيام بالمراجعات الفكرية النقدية الضرورية: لقد عرى طوفان الأقصى عورة منظومات الحكم وصناعة القرار في الغرب كما لم يُعرِّها حدث من قبل؛ وتبيَّن أن الفلسفات التي تروج لها أنظمة دول الشمال وتصنع بها ولاءات النخب المؤثرة سياسيا وثقافيا في دول الجنوب، مفصَّلة على مقاس “الإنسان الغربي” وليس لمصلحة “مطلق الإنسان”. فالليبرالية، والحداثة، والقانون الدولي والإنساني، وحقوق المرأة والطفل والأسير والمريض، والحق في الحياة وفي التعبير والتجمع والتظاهر، و..و.. ! كل ذلك تكشَّف زيفه وكذبه، وفقد معناه ومبناه، وتعرت مع سقوطه سوأة المنظور العنصري لهذه الحقوق والحريات المزعومة زورا وبهتانا. لأجل ذلك، فإن المثقفين وقادة الأحزاب وصناع الرأي مدعوون لاسترجاع دورهم ووظيفتهم من وحي دروس وعِبَر الطوفان، من خلال القيام بمراجعات نقدية عميقة تعيد الاعتبار للقيم والمرجعيات الأخلاقية والفكرية الأصيلة، والعمل على تمتين الجبهات الوطنية الداخلية، بعيدا عن صراعات العبوديات الفكرية والتبعيات السياسية والثقافية للغرب، والتي عطلت قدرات الفعل الأصيل لصالح نهضة الشعوب واستقلالها الفكري والثقافي والسياسي، وجعلت الكثرة الكاثرة من المثقفين والسياسيين مجرد ملحقات غارقة في التقليد والببغائية الفكرية، أو كائنات من المتأملين والمتألمين الحالمين على هامش الأحداث.. !
- بالنسبة لدول وحكومات الشعوب الإسلامية: من أوجب الواجبات في حق حكومات العالم الإسلامي أداء فريضة التحرك المسؤول لوقف العدوان النازي على الشعب الفلسطيني، واستفراغ الوسع بما يقتضيه واجب نصرة ذي الرحم المظلوم، والانحياز المؤثر لصفه وصفِّ مقاومته كحالة تحررية مجيدة تنافح عن مقدسات المسلمين، بكل ما يتاح من وسائل وأسباب عمل الحكومات والدول، ومن ذلك على سبيل الذكر لا الحصر:
- واجب النصرة في المحافل الدولية: ويقتضي التصرف سياسيا وأخلاقيا على المستوى الدولي على أساس أنَّ أمن الشعب الفلسطيني من أمْن كل قطر من أقطار شعوب ودول المنطقة، وأن انهياره يعني انهيار خط الدفاع الأول في مواجهة كيان مصمم على صناعة نكبة جديدة لن يَسلَم أحد من مخاطرها وتداعياتها؛ ومناصرة حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، وتفنيد أطروحة داعمي الكيان المعتدي القائلة بحقه في “الدفاع عن النفس” حتى وهو يمارس أبشع جرائم الإبادة داخل أرض محتلة؛ والعمل بكل الوسائل لوقف حرب الإبادة التي يتعرض لها ودعم مبادرات مقاضاة مجرمي الحرب وعدم إفلاتهم من العقاب؛ وأخيرا، دعم صموده على الأرض بتمكينه من أسباب الحياة التي يعمل الاحتلال على تجفيف منابعها، للحيلولة دون تهجيره وإعدام قضيته العادلة، وتصدير مظلوميته إلى كل دول المنطقة؛
- واجب تمتين الجبهة الداخلية: ويقتضي التعاون الصادق مع الشعوب لصناعة تحول استراتيجي سياسي وتنموي يرفض التسليم بازدراء الكيان العبري للأنظمة السياسية وللمجتمعات على السواء، بترويج صورة مزيفة لتحضره المزعوم، من خلال الأطروحة الصهيونية التي تعتبر دولة “إسرائيل” واحة للديمقراطية في غابة من التوحش الاستبدادي؛ وهو ما يقتضي العمل على تمتين الجبهة الداخلية بإطلاق مراجعات ومصالحات عميقة وجدية مع وجدان وضمير المجتمعات – المنحازة قولا واحدا للموقف البطولي للمقاومة الفلسطينية، وللصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة – بدءا بتعزيز الحريات، وسيادة القانون، وكفالة حقوق المواطنين في التعبير السلمي عن مبادراتهم لنصرة فلسطين؛ وصولا لمراكمة الإصلاحات والمصالحات التي تجعل “إسرائيل” غابة من التوحش العنصري في واحة من الحكم الرشيد والمجتمعات المتحضرة.
- التحلل من التطبيع لدرء مخاطره : ويقتضي العمل على الطي السريع والنهائي لملف التطبيع الذي سقط شعبيا، والتحلل جملة وتفصيلا منه لدرء مخاطره وتبعاته، لأنه بات يشكل جرحا عميقا لضمير وكرامة الشعوب المسلمة، وضررا جسيما لصورة الدول المطبعة أمام ضمير أخلاقي عالمي بات مُجْمِعا على تصنيف الكيان الصهيوني كمجرمِ حربٍ وكنظامٍ نازيٍّ جديدْ. فالتطبيع أصبح اليوم في وعي الشعوب المسلمة مرادفا لمجموعة من النعوت السلبية التي تتأرجح بين حدَّين: حدٌّ أدنى ينعته بالجبن والعجز عن مواجهة إجرام وأطماع كيان محتل ومتوحش، وحدٌّ أقصى يَسِمُه بالشراكة المباشرة أو غير المباشرة في جرائم إبادة شعب شقيق تراهن إرادة احتلال عنصري – مفروض بالمكر الغربي المؤمن بالقوة لا بالحق – على طمس حقوقه وإبادته؛ وكلاهما توصيفان لا يخدمان سوى المشروع الصهيوني، ولا يمكن أن يرجى منهما أمن أو استقرار لدول وشعوب المنطقة.
- بناء رؤئ إقليمية جديدة للتكامل والاندماج: ويقتضي العمل على تصحيح المسارات الخاطئة للعلاقات بين الدول العربية والإسلامية، والمسارعة إلى فض النزاعات المزمنة والمفتعلة سلميا، ضمن منظور يجسد وعي الأنظمة السياسية بالحاجة إلى حماية أمن دولها وشعوبها، في إطار رؤية إقليمية متجددة لا مكان فيها للرهان على نظام عنصري نازي أثبت على الدوام أن أمن كيانه ومستوطنيه مقدس، وأنه يتحقق وجوبا بتفخيخ وإضعاف أمن من يحيطون به. وهو ما يعني أولوية التحرر من أوهام “غباء التشرذم” ومعانقة “عبقرية التكامل” – نموذج غباء الرهان على الانفصال الذي جرَّ التطبيع في حالة الوضع المغاربي على سبيل المثال – لأنه غباء يؤجل المصالحات الاستراتيجية الضرورية للأمن التكاملي والمندمج، ويؤجج عوامل تغذية الفتنة وانعدام الثقة بين الأنظمة وشعوبها، وبين الأنظمة فيما بينها. وعموما، فإن الأنظمة السياسية بعد طوفان الأقصى، مطالبة بتجهيز رؤى جديدة لحماية أمنها الاستراتيجي في شمولية أبعاده، بعيدا عن الصراعات التي تخدم تأبيد مشاريع الهيمنة الصهيونية والامبريالية على مجال حضاري يمتلك كل مقومات الاندماج والتكامل والنهوض، لكنه غارق في أوحال تصنيفات احتراب سياسي وعقائدي أعمى، بين “محور المقاومة” و”محور التطبيع”، وبين “السنة” و”الشيعة”، وبين “الوحدويين” و”الانفصاليين”، وبين “الأكراد” و”الفرس” و”الأتراك” و”الأمازيغ” و”العرب”.. وهلم جرا.
لأجل ذلك، ولأنه لا عاصم من أمر الله إلا من رحم.. وجب على كل ذي لُب أن يتموقع في المكان الصحيح من الصراع، لأن كافة المؤشرات تفيد أن المآلات سائرة حتما إلى حرب تحررية شاملة وهندسة إقليمية جديدة، وليس الأمر مجرد مواجهة كما كان الحال قبل اشتداد عود المقاومة، وبعد اشتداد إمعان الكيان الصهيوني في تنزيل رؤيته التلمودية المؤمنة بأسلوب جرائم الحرب والإبادة لبناء نظام سياسي عنصري في دولة الهيكل الخالصة لليهود؛ أي إن المآلات سائرة لترسيخ استحالة أي حل سلمي يضمن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني؛ بمعنى آخر، إن القدر يقود المنطقة حتما إلى حرب كبرى لن تنتهي إلا بتفكيك آخر استعمار استيطاني ظلت تعاني من وجوده الأمة بأكملها، كما ظل الشعب الفلسطيني يشكل رأس الحربة في هذه المواجهة، شاهدا وشهيدا في هذه الملحمة الأسطورية التي يتواجه فيها الحق المطلق مع الشر المطلق، مواجهة لا تعايش فيها إلا بزوال أحدهما.. ! ومتى كان الحق زهوقا ليزول؟ !! ..
إن قدر الباطل أن يغرق حتما في سوء تقديره وفعله.. وقد بدأ طوفانه :
- فقد أغرق طوفان الأقصى عنجهية الجيش الصهيوني في أوحال نكبة عسكرية ونفسية تاريخية لا مخرج له منها إلا إلى مزيد من الهزائم والانكسار.. ولا مهرب له منها إلا إلى مزيد من الفشل والانهيار.. يدل على ذلك تخبطه الإجرامي وهو يغرق في بحر دماء الأبرياء كل يوم كما لم يغرق جيش من قبل.. !
- وقد أغرق طوفان الأقصى المستوطنين الصهاينة في بحر ظلمات اللايقين الأمني، وحطم أحلامهم بالعيش الهنيء في وطن مُحتل، وفرض عليهم التفكير في حزم الحقائب لهجرة مضادة وشتات جديد، لأنهم استفاقوا على حقيقة أن فلسطين ليست: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” كما سوقت لهم الأساطير الصهيونية، بل “أرض شعب مقاوم لا يُقتلع، احتلها شعب مستوطن مصطنع” !
- كما أغرق طوفان الأقصى دولة العنصرية والإبادة في بحار الدم الفلسطيني الذي جرى شلالا في غزة الشاهدة والشهيدة.. عنوانا لجرائم حرب نازية ستظل تُسوِّد وجه الدولة العبرية في العالمين إلى يوم الدين.. ومن المؤكد بعد انتهاء الحرب بهزيمة الجيش المحتل، سيفتح الباب لحرب جديدة ضد رموز النازية الجدد، بتقديمهم للعدالة الجنائية على غرار من سبقهم في حروب الإبادة والتطهير العرقي.. !
- كما أغرق طوفان الأقصى مشاريع التطبيع الذي كان المبشرون به يتباهون بتركيع الدول وإيقاعها في حبائله. فها هي أوهامه الصهيونية تغرق في لُجج الدم الفلسطيني ويُحكم عليها بالبَوار، فقد انكشفت مزالق هذا الارتباط الخطير بنظام عنصري سفّاح، ملطخٌ سجلُّه بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وتأكد لكل ذي عقل ومروءة أنه متخصص في بيع أوهام حماية الأمن والتعايش والرفاه المشترك، وضالع مُذْ وُجِدَ في التنكر لكل المواثيق والعهود؛ ولذلك صار التطبيع بعد الطوفان ومجازره عارا سيجلب الشؤم والخراب للأوطان، وصار الانعتاق من أغلاله مسؤولية أخلاقية وسياسية !
- كما أغرق طوفان الأقصى إلى الأبد – في بحر البطولة والمجد مهما ارتفعت فاتورة التضحيات – مناخ الهزيمة الذي ظل جاثما على نفوس ومعنويات الفلسطينيين والعرب والمسلمين، بفعل تاريخ غير يسير من الهزائم في مقارعة من سوَّقوا وَهْم “الجيش الذي لا يقهر“.. فصار فجر 7 أكتوبر بداية عصر جديد غيرت فيه الهزيمة والنصر مواقعهما.. وترسخت في النفوس الثائرة في فلسطين، والمتضامنة معها في كل أصقاع العالم، مقولة جديدة صنعتها إرادة شعب منتفض ضد الاحتلال والقهر والعدوان: “جيش الباطل المقهور .. ومقاومة الحق الذي لا يقهر“.. !
- ولقد أغرق طوفان الأقصى أخيرا صورة الغرب السياسي الماسك بزمام السلطة والسلاح والإعلام، وأثبت أنه آيل أخلاقيا للذبول والتردي، لأنه غرب ادعاء الديمقراطية وحقوق الإنسان وهُما منه براء (!!).. فقد أغرقه طوفان الأقصى في قاع بحر تمور فيه مواقفهم نفاقا وكذبا وازدراءً للحياة، ويتلاطم فيه مكرهم تنكرا لقيم العدل والجمال والمساواة ، ويموج فيه خطاب زعمائهم حقدا بالتفاهة والرداءة والسفاهات؛ ولذلك كان الطوفان إيذانا بسقوطه سقوطا مدويا مضرجا في عفونات عنصريته، وازدواجية معاييره الاستعمارية الامبريالية المتأصلة !
هذا هو الطوفان وهذه بعض بدايات تمظهراته.. وتلك بعض وظائفه: الإغراق لمن استجمع شروط استحقاقه .. والنجاة لمن أخذ بالأسباب ! وقد فعل طوفان الأقصى فعله، وما يزال، وسيظل.. !
تلك سنة الله في الذين خلوا من قبل.فاعتبروا يا أولي الأبصار.. !