الرشيديةمنبر الجهة8

عبد الجليل رسو يكتب .. وراء كل أستاذ عظيم وزارة..

 

عبد الجليل رسو
أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي
باحث في سلك الدكتوراه

 

ضمن نقاشات فكرية ومعرفية تهدف لفتح قضايا النهضة في العالم الإسلامي يأتي سؤال: لماذا تقدم الغرب وتأخر غيرهم؟ استبداد وفقر، قهر وتخلف.

وفي محاولة للإجابة عن هذا السؤال، يبرز دور التعليم في تقدم الشعوب والأمم. لكن سؤال النهضة تحفه عدة اعتراضات وعوائق داخلية وخارجية؛ يتداخل فيها ما هو اقتصادي وسياسي وفني..

تشهد الساحة التربوية في البلدان العربية إخفاقات متراكمة، هذه الإخفاقات انعكاس لإفلاس السياسات التعليمية التي أصبحت تتسم بالارتجالية والسطحية في التخطيط، أضف إلى ذلك النتائج الوخيمة التي تترتب عن إقحام النماذج الغربية الجاهزة والصراعات الهوياتية الداخلية في مختلف عمليات الإصلاح.

من جهة أخرى، يبرز تأثير بعض الأعمال الفنية في إبراز صورة سلبية عن المعلم في الوجدان الشعبي، حيث يغلب عليها طابع السخرية، ويتجلى ذلك من خلال عرض أشهر عمل مسرحي مصري؛ أسس لنا جيلا يسخر من المعلم وهي “مسرحية مدرسة المشاغبين”.

يقول الدكتور مصطفى كمال حلمي (وزير التعليم العالي في مصر سابقا):” إن مسرحية مدرسة المشاغبين كانت واحدة من أسباب كثيرة أدت إلى انهيار منظومة التعليم في مصر وتدنيه، لأنها أفقدت المعلم الاحترام والهيبة”[1]

والسؤال الأول في هذا المقام هو كالآتي: لماذا يتم فرض سياسة تجويع المعلم؟

وتبعا لهذا، ترد أسئلة فرعية أرى وجوب عرضها للنقاش، وليس بالضرورة التمكن من الإجابة عنها؛ وهي كالآتي:

  • ما هي الأسباب الكامنة وراء فرض سياسة التقشف؟
  • هل هي فعلا نية خبيثة لتحطيم صورة الأستاذ في الوجدان الشعبي؟
  • أم أن المسألة تتعلق بكون نفقات التعليم أصبحت ترهق ميزانية الدولة؟
  • أم أن الأزمة في حقيقتها تقع على عدة مستويات، وليس على مستوى قطاع التعليم فقط؟
  • وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا نرى شحا ماديا يصرف في تدبير قطاع التعليم، بينما نرى أموالا تترعرع (الزيادة في الأجور) تصرف لصالح مؤسسة الأمن…؟
  • هل الأدوار التي يقوم بها رجال ونساء التعليم أقل بكثير مما يقوم به رجال ونساء الأمن؟

والسؤال الثاني: كيف تؤثر قرارات السلطة الوزارية في منظومة التربية والتعليم؟

والسؤال الثالث: لماذا يتم إقحام المقاربة الاستخباراتية في معالجة القضايا التربوية؟

للمعلم مكانة اجتماعية متميزة، فدوره لا يقل أبدا عن دور القضاة والأطباء والمهندسين وغيرهم، بل لا أبالغ إن قلت هو الأساس الذي قامت عليه المهن الأخرى. فهو في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، به يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليه أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب على حد تعبير الإمام ابن القيم الجوزية.

فالأستاذ بثقافته الواسعة وإرشاده الدائم يستطيع أن ينهي مآسي وآلام المجتمع؛

وفي هذا الإطار يقول الأديب نجيب محفوظ: ” يمتلك المعلم أعظم مهنة، إذ تتخرج على يديه جميع المهن الأخرى “.

لقد عرفت مؤسسات العلم والتربية ـــ على مدى عدة عقود ـــ احتقانا واسعا بين الوزارة الوصية ومختلف أطرها التربوية، ما أدى في السنوات الأخيرة إلى انخراط شامل لهيأة التدريس في إضرابات متتالية، نتيجة لذلك تم تعطيل الوظائف التعليمية لهذا المرفق الحساس، ولا شك أن هذا الأمر سينعكس سلبا على سير الحياة الاجتماعية عموما، والحياة المدرسية على وجه الخصوص؛ وذلك بهدر الزمن المدرسي للمتعلمين وضياع حقهم في التعليم.

وإذا كان كل عقلاء التربية والتعليم يتفقون على حق التلميذ في التمدرس، إعمالا لقاعدة ” الضرر يزال ” فإنه من المهم أيضا؛ لحل هذا (البلوكاج) التربوي في شموليته؛ الموازنة بين المصالح والمفاسد، وذلك باستحضار المصالح المشروعة للأستاذ أيضا، حفاظا على رفع الضرر عن الجميع.

وأمام هدر الزمن المدرسي للتلميذ من جهة، وتردي ظروف عمل رجال ونساء التعليم من جهة أخرى؛ يطرح السؤال الآتي: من يتحمل مسؤولية ضياع حق التلميذ والأستاذ على حد السواء؟؟

إن الأوضاع المادية المزمنة للأساتذة تنذر بكارثة أخلاقية تتحمل مسؤوليتها الدولة، فقد أثرت هذه الأوضاع في مسارهم المهني، وقتلت فيهم روح الإبداع والالتزام، بل إن بعض الأساتذة اتجهوا إلى الاشتغال بأمور التجارة على حساب المهام التربوية. وبالتالي تم الإسهام بشكل مباشر في تعطيل قدراتهم المعرفية والفكرية، وإشغالهم عن البحث العلمي وقضايا النهضة الحضارية.

وأمام هذا الوضع المادي المزمن، ستفشل كل المشاريع التربوية والرؤى الإصلاحية، نتيجة لتكريس سياسة التجويع، على وزان ” جوع كلبك يتبعك“، حتى يظل سقف طموحات الأستاذ محدودا وأفقه الأكاديمي محصورا.

لقد واجه الأستاذ عدة وسائل استهدفت جميعها تحطيم منزلته في الذهنية الاجتماعية المقهورة، وذلك من خلال فرض سياسة التجويع والاستبداد، الشيء الذي رسخ لدى هذه الفئة المقهورة أيضا؛ فكرة المثقف الجائع. وهذا بدوره سيسهم في تمرير رسائل الفشل والإحباط لدى كل فئات المجتمع المقهورة. حيث يتساءل الناس: إذا فشل الأستاذ في فرض سلطته المعرفية ووعيه القانوني على الهيئات الحكومية لتحقيق مطالبه المشروعة؛ فكيف له أن ينهي مآسي وآلام المجتمع المقهور، في حين هو نفسه يتذوق كل صنوف القهر والاستبداد؟

إن الإجهاز على المجتمع ككل يبدأ بالإجهاز على القدوات والنماذج، وفي هذا الإطار يقول عالم المستقبليات الدكتور المهدي المنجرة نقلا عن أحد المستشرقين ” إذا أردت أن تهدم حضارة أمة فعليك بهدم الأسرة، وهدم التعليم، وإسقاط القدوات والمرجعيات”[2].

لقد سعت السلطة الوزارية الإبقاء على فكرة الاستبداد بالرأي الواحد؛ من خلال وسائل تحفيزية وقمعية على حد سواء، حيث عمدت إلى اعتماد ثلاثة وسائل:

الأولى: احتواء بعض الأطر بتقديمها الولاء المطلق للسلطة التربوية، وترويج الرواية الوزارية فيما يرتبط بقطاع التعليم، في مقابل ذلك يتم إغداق المكاسب المادية، أقصاها امتياز وظيفي هنا أو هناك..

الثانية: يحاول المستبد (التربوي) إبعاد القدوات عن الأضواء، وذلك بالإجبار والقهر على الصمت.

الثالثة: الحروب النفسية وتشويه السمعة بتلفيق ملفات كيدية جاهزة، وأحيانا السعي الحثيث إلى عقد المجالس التأديبية للأساتذة لولا تريث العقلاء منهم.

وأما الأداة المساعدة فهي محاولتهم إقحام الأجهزة الاستخباراتية في قضايا التربية والتعليم. وعموما إذا كان حضور هذا الجهاز في مجالات السياسة والاقتصاد والإعلام والفن ضروريا ومهما لحفظ النظام العام، والأمن الوطني، فهل هناك مبرر واقعي يفرض إقحامه في التربية والتعليم؟

نتيجة لهذا، ساد الخوف واليأس لدى معظم الأساتذة، ما دفع الكثير إلى العزلة وفقدان الثقة في الهيئات النقابية، بينما اختار البعض الهجرة إلى دول متقدمة في ميدان التربية والتعليم.

ولعل من بين أبرز المفكرين الذين أوضحوا تأثير الاستبداد في حق رجال التربية والتعليم هو الأستاذ عبد الرحمن الكواكبي، يقول: ” والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام، وأكثر العلماء الأعلام والأدباء النبلاء تقلبوا في البلاد وماتوا غرباء”[3].

ختاما، إن الهيئة الوزارية الناجحة تسعى دائما إلى إرساء مدرسة الإنصاف والجودة، وتمد الأستاذ بكل الموارد المادية لأجل التطور والإبداع، وتمنحه حرية واسعة لتحقيق أهدافه التربوية، دون أي معيقات إدارية سلطوية، فالإبداع يكون حيث لا يكون الخوف والاستبداد. وفي هذا المقام لن نجد أفضل من تعبير أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا “.[4]

لذا من الضروري أن ترقى الهيئة الوزارية إلى مستوى متقدم في فن الإدارة والتسيير دون أي حسابات أيديولوجية أو سياسية ضيقة.

المراجع : 

  • [1]www.rattibha.com
  • [2] نقلا عن موقع مغرس
  • [3] عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ص 71، دار النفائس، ط 4 سنة 2011م
  • [4]  هَذَا الكَلَامُ وَرَدَ في كِتَابِ الوِلَايَةِ عَلَى البُلْدَانِ، وفي كَنْزِ العُمَّالِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلَاً مِنْ أَهْلِ مِصْرَ أَتَى عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، عَائِذٌ بِكَ مِنَ الظُّلْمِ. قَالَ: عُذْتَ مُعَاذَاً.
  • قَالَ: سَابَقْتُ ابْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ فَسَبَقْتُهُ، فَجَعَلَ يَـضْرِبُنِي بِالسَّوْطِ وَيَقُولُ: أَنَا ابْنُ الأَكْرَمِينَ.
  • فَكَتَبَ عُمَرٌ إلى عَمْرٍو يَأْمُرُهُ بِالقُدُومِ وَيَقْدُمُ بِابْنِهِ مَعَهُ.
  • فَقَدِمَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَيْنَ المِصْرِيُّ؟ خُذِ السَّوْطَ فَاضْرِبْ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِالسَّوْطِ وَيَقُولُ عُمَرُ: اضْرِبِ ابْنَ الأَكْرَمِينَ.
  • ثُمَّ قَالَ عُمَرٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مُذْ كَمْ تَعَبَّدْتُمُ النَّاسَ وَقَدْ وَلَدَتْهُمْ أُمَّهَاتُهُمْ أَحْرَارَاً؟
  • وبناء على ذلك:
  • ذكر العلماء أن معنى الحديث صحيح لكن سنده ضعيف. موقع أحمد شريف النعسان

مقالات ذات صلة

Back to top button
error: Content is protected !!

Adblock Detected

يجب عليك تعطيل مانع الإعلانات - Ad Block أو عدم إغلاق الإعلان بسرعة حتى يمكنك الإطلاع على المحتوى