
تنطلق المفارقة الكبرى، من القطيعة ـ او التباعد في أحسن الحالات ـ بين رؤية الدولة و رغبة القصر في تجديد النخب السياسية، و بين “محافظة” الأحزاب في جوابها على هذا السؤال الاستراتيجي في حياة الدولة.
لعل هاته المفارقة، هي العنوان الأبرز لتجربة شاب، من داخل شبيبة البام، بدرعة تافيلالت… اسماعيل شفقي.
آمن الرجل بالخط الفكري لحزبه، رفع لواء الحداثة في سياقات صعبة، حتى صار اسمه رديفا لها، إلتزم من داخل التنظيم، “حتى خاصم فيه ـ و في حبه ـ الجميع”، كما عبر أكثر من مرة و في أكثر من سياق، بدينامية ميدانية جعلته على فواهة مدفع خصوم البام. و أعداء مشروعه السياسي و الاديولوجي. فهو بامي الفكر و المرجعية قبل التنظيم و الحزبية.
وقع “شيكا سياسيا” لحزبه و رفاقه.. وقعه على بياض. مؤمنا بوفرة رصيده الحزبي و الاديولوجي و الأخلاقي و الأكاديمي، فهو الباحث في الشؤون السياسية و الدستورية و كاتب الرأي و الفاعل المدني و هو المؤمن الذي يجد نفسه اليوم أمام صك اتهام، مفاده الرصيد المتطرف في عشق البام. صك مشفوع بدفتر صحي يفيد الإصابة بإفراط الحركة السياسية و النشاط الحزبي.
و هو الذي صُلي بمكروه هذا الأمر البامي، في جماعته الترابية، مكروه الخطوة الحداثية الأولى في أرض نالت منها المحافظة، حتى طُعن في عقيدته و عرضه، و نُكِّل بكرامته، و جُرِّحت صورته الاجتماعية، و استشعر الخوف و العزلة، و اكتحل السهر، و بُرِيَّت في أمره البامي الألسن حزًّا بالشِّفار، و سملت فيه الأعين.. فلما تنسم الرجل روح الحياة، و انفسح بصره، و أثمرت غراسه و تبدد غبار المعركة المنعقد فوق رأسه… دون سابق إنذار، و دون محاكمة أُعدم مساره خارج قانون العقل. على مقصلة حسابات..بعيدا عن هاته الطلالية العباسية. لنضع القدم في الأرض الحزبية، و لنضع الأصبع على جرح السياسة..
بين أهواء و هواجس، بين انهيار الرفاقية في اللحظات الفارقة، بين النيران الصديقة، يجد الرجل نفسه اليوم، منفردا، على هامش الشبيبة، و هو الذي كان بقلبها، بل قلبها النابض و عقلها المدبر. رئيسا للجنة التحضيرية لمؤتمرها الإقليمي الأول، و مبعوثا دائما فوق العادة، للشبيبة البامية الميدلتية بالرباط.
بنهاية تراجيدية، و في مشهد مؤلم “لكل الديمقراطيين”.. لكل الديمقراطيين بكل المعاني، حركةً و فكرًا و مؤسسين.. يُهْدَر دم الطموح السياسي الشاب، على أرض “باريس الصغيرة” و في أحوازها.
بعيدا عن حيثيات ما جرى، في التهميش غير المفهوم بلغة العقل، غير المستساغ بمنطق الوفاء… فالقلب المؤمن شفاف و الزمن السياسي بطبيعته كشاف، و للشاب اليوم،الكثير من الوقت ليحكي.. عن أشهُرٍ معدودات، معدودة بعمق السنوات..
ليظل السؤال النفسي- السياسي الأقوى:
كيف للعشق أن يُردي صاحبه أرضا، كيف للحقيقة أن تقتل رجالها.. جواب يتملك الرجل ناصيته جيدا، فهو الذي عرَّف و يُعَرِّف نفسه ب”صوفي” النهج و المسلك و المشرب. و هو الدارس لتاريخ الدول و مسارات و مصائر الرجال فيها.
بعيدا عن ايقاع التعشق في ملكوت السياسة و ” ملائكيتها المفترضة “، فإن هاته الواقعة تبعث مرة أخرى، و بقوة، سؤال التشبيب، من داخل الأحزاب، و سؤال موقع النخب الجامعية و رجال الثقافة، داخل هاته البنيات. و يعيدنا للمفارقة المؤسِّسة لهذا السرد، “الهوة الشاسعة بين إرادة الدولة في تجديد النخب، و بين بعض الدوائر المغلقة أو بالأحرى فاعلين ب”رؤية منغلقة” من داخل مستويات معينة بالأحزب.. حتى لا نسقط في تعميم أعمى.
ليس اسماعيل شفقي أول من جارت عليه السياسة بجورها، و لن يكون الأخير طبعا..لكن ما يعطي لتجربته، مأساويتها الخاصة، ليست تفاعلات السياسة و صراع المواقع.. فهي من صميم الفعل السياسي، و هي جوهره.
مأساوية المشهد، في هذا العشق و الإيمان الذي يقتل صاحبه، في جلسة المواجهة المؤلمة بين آمال البدايات و وجع النهايات.
و قديما قالت العرب : “من الحب ما قتل”.