
إنجاز: عبد الجليل شاهي (أكادير)
ورزازات، المدينة التي تلقب بـ”عاصمة الشمس” و”هوليود إفريقيا”، تعيش على وقع مفارقات مؤلمة، فبينما تتألق على شاشات السينما العالمية بمناظرها الصحراوية الآسرة الطبيعية، وتستقطب كبار صانعي الأفلام من هوليوود لتصوير أعمالهم، تعاني في الواقع إهمالا تنمويا يهدد حاضرها ومستقبلها، ورغم أنها وجهة سينمائية وسياحية بامتياز، تظل ورزازات رهينة إشكالات بنيوية تعرقل انطلاقتها، على رأسها ضعف الربط الجوي، الذي يحد من تدفق السياح، ويعمق حالة الركود الاقتصادي، ويفاقم معدلات البطالة، في منطقة تزخر بإمكانيات فلاحية وسياحية وبيئية هائلة، لكنها تبقى عاجزة عن تحويل ثرواتها الطبيعية ومؤهلاتها المتعددة إلى فرص تنموية حقيقية، فتبهر العالم بأضوائها السينمائية، بينما تغرق في ظلال التهميش والنسيان.
تتربع ورزازات جوهرة نادرة فوق سفوح جبال الأطلس الكبير، متكئة بهدوء على تخوم الصحراء، في مشهد يجمع بين قسوة الطبيعة وسحرها الأخاذ، على بعد 200 كيلومتر من مراكش، اسمها الأمازيغي الأصل، مكون من كلمتين، “وَرْ” بمعنى “دون”، و”زازات” بمعنى “ضجيج”، المدينة الهادئة، ليعكس طابعها الساحر الهادئ، غير أن صمتها هذا تحول إلى صدى عالمي مدو على الشاشة الكبيرة، بعدما حولها كبار المخرجين إلى أكبر استوديو طبيعي مفتوح في العالم.
ورزازات ليست مجرد مدينة عادية، بل هي لوحة طبيعية أخاذة، جمعت بين تناقضات الجغرافيا وسحر التفاصيل، جبال شامخة يتجاوز ارتفاع بعضها ألف متر، وكثبان رملية ذهبية، وواحات خضراء نابضة بالحياة، وأودية جافة تروي حكايات الزمن والإنسان، هذا المزيج الفريد منحها مكانة مرموقة واحدة من أبرز وجهات السياحة العالمية، وكرسها عاصمة للسينما في القارة الإفريقية، حتى لقبت بـ”هوليود إفريقيا”.
يبلغ عدد سكان ورزازات 76 ألف نسمة، يعيش أكثر من نصفهم على إيقاع الصناعة السينمائية، لم يقتصر دورهم على التمثيل الثانوي (الكومبارس)، بل أبدعوا في أداء أدوار رئيسية، وبرزوا فنيي إضاءة، ومهندسي ديكور، وخبراء مؤثرات خاصة، يحملون خبرات تنافس كبرى الشركات العالمية. وإلى جانب السينما، يشكل قطاع السياحة رافدا حيويا للحياة الاقتصادية في المدينة، حيث يشتغل السكان مرشدين سياحيين، ومنظمي رحلات، وعاملين في الفنادق الفاخرة المتناغمة مع خصوصية المكان وطبيعته الساحرة.
ولم يكن حضور ورزازات في المشهد العالمي وليد الصدفة، بل ثمرة تاريخ طويل من التراكم الفني والثقافي، جعل منها أيقونة مغربية وعالمية، تختزن ذاكرة السينما العالمية، وتفتخر بإرثها الأمازيغي الأصيل، وبطبيعتها الخلابة، وهدوئها العميق الذي صار جزءا لا يتجزأ من هويتها الراسخة في قلوب زوارها وعشاقها من كل أصقاع العالم.
مطار بلا أجنحة
رغم ما تختزنه ورزازات من مؤهلات طبيعية وتاريخية وثقافية تجعلها في صدارة الوجهات السياحية المتميزة بالمغرب، إلا أن هذه الحاضرة السياحية ما زالت ترزح تحت وطأة عزلة خانقة بسبب أزمة النقل الجوي، التي تحولت إلى العائق الأكبر أمام تحقيق طموحاتها التنموية والسياحية.
فعلى الأرض، بذلت مجهودات ملموسة لإعادة تحريك عجلة الاستثمار السياحي، إذ عملت الشركة المغربية للهندسة السياحية على دعم الفاعلين المحليين، لإعادة فتح مجموعة من الوحدات الفندقية المغلقة، ما ساهم في تحسين الطاقة الاستيعابية للمدينة التي بلغت حاليا حوالي 6800 سرير، مع توقعات ببلوغ 8500 سرير في المدى القريب، وهو رقم يبرز بوضوح جاهزية البنية التحتية للاستقبال السياحي.
لكن في المقابل، ظلت سماء ورزازات شبه خالية من الرحلات الجوية الكافية لمواكبة هذه الدينامية، إذ لا يتجاوز عدد الرحلات الأسبوعية نحو المدينة 16 رحلة فقط، وهو رقم هزيل بالنظر إلى موقعها الإستراتيجي وطموحاتها السياحية، الخط الرابط بين البيضاء وورزازات، وهو الأهم وطنيا، لا يوفر سوى 7 رحلات أسبوعيا بطاقة استيعابية تصل بالكاد إلى 385 مقعدا، في حين أن الدعم المالي الذي يقدمه مجلس جهة درعة تافيلالت لهذا الخط يهدف أساسا إلى ضمان 780 مقعدا، وهو التزام لم يجر احترامه على أرض الواقع.
أما الخط الجوي الذي يربط ورزازات بطنجة، فلا يتعدى رحلتين أسبوعيا بطاقة 370 مقعدا، وسط معطيات تشير إلى قرب إلغائه خلال هذه الأيام، ما سيزيد من حدة العزلة الجوية للمدينة، وعلى الصعيد الدولي، تبدو الوضعية أكثر هشاشة، إذ لا تتجاوز المقاعد الأسبوعية المخصصة للرحلات المباشرة القادمة من باريس ومرسيليا وبرشلونة ولندن سقف 1260 مقعدا، مع غياب واضح للاستقرار في برمجة هذه الرحلات، الأمر الذي يضعف ثقة السياح ويؤثر سلبا على صورة الوجهة ككل.
ورغم أن مجلس الجهة صادق منذ مارس 2022 على اتفاقية لتنشيط السياحة المحلية وفتح آفاق جديدة أمام القطاع، إلا أن هذه الاتفاقية ما تزال إلى اليوم حبرا على ورق، في ظل غياب تنفيذ فعلي لها على أرض الواقع، ويطرح هذا الوضع إشكالية حقيقية تتعلق بغياب التنسيق والانتقائية بين مختلف المتدخلين، إذ أن المكتب الوطني المغربي للسياحة لم ينجح بدوره في توسيع خارطة الربط الجوي الدولي للمدينة، ولم يعمل على تأمين استقرار الرحلات رغم الحاجة الملحة لذلك.
ويجمع الفاعلون المحليون بورزازات على أن إنقاذ مستقبل القطاع السياحي بالمدينة يمر حتما عبر بوابة السماء، من خلال ضرورة مضاعفة عدد الرحلات الجوية نحو ورزازات، وإضافة خطوط جديدة تربطها بمطارات دولية ومحلية استراتيجية، فضلا عن إلزام شركات الطيران باحترام التزاماتها التعاقدية، مع وضع خطة واضحة ومستدامة لتنشيط السياحة وضمان استقرار العروض الجوية، بما يعيد لورزازات أجنحتها المفقودة ويمكنها من الإقلاع الحقيقي الذي طال انتظاره.
المدينة السينمائية
تواصل ورزازات أيقونة السينما العالمية، ترسيخ مكانتها وجهة دولية مرموقة في خارطة الإنتاج السينمائي، من خلال مشروع إستراتيجي طموح يروم إحداث “مدينة الإنتاج السينمائي” بميزانية تناهز 240 مليون درهم، في خطوة نوعية تستهدف تحويل المدينة إلى قطب عالمي للصناعات الإبداعية والمرئية.
ويأتي هذا المشروع الرائد ليجسد رؤية متكاملة تقوم على إحداث منطقة صناعية مستدامة تحتضن كبريات شركات الإنتاج السينمائي الوطنية والعالمية، مع تركيز خاص على مرحلة ما بعد الإنتاج، وتوفير فضاءات مهنية بمعايير عالية الجودة لفائدة المقاولات العاملة في القطاع. كما يسعى المشروع إلى إرساء منظومة اقتصادية متكاملة تدعم المشاريع السينمائية، وتعزز الإبداع المحلي، مع إحداث بيئة محفزة للاستثمارات الأجنبية، بما من شأنه تحريك الدورة الاقتصادية لورزازات، وفتح آفاق جديدة للشباب عبر فرص شغل واعدة في قلب صناعة الصورة والإبداع.
وتطمح هذه المبادرة الكبرى إلى تثبيت موقع ورزازات عاصمة للسينما بالمغرب وإفريقيا، مستندة إلى بنيتها التحتية المتطورة، وغناها الطبيعي والثقافي، وتنوع تضاريسها الذي يحاكي عوالم سينمائية خيالية، يجعلها فضاء مثاليا لاستقطاب أضخم الإنتاجات العالمية.
ولم يكن اختيار ورزازات اعتباطيا في خارطة السينما العالمية، بل هو تتويج لمسار حافل بالعطاء الفني يمتد لأكثر من قرن، منذ تصوير أول شريط سينمائي بها في 1897 بعنوان “راعي الماعز المغربي”، مرورا بإنتاجات عالمية مثل “موروكو” في 1930، و”عطيل” في 1949، و”الرجل الذي يعرف أكثر” في 1955، وصولا إلى أعمال أيقونية مثل “غلادياتور”، و”صراع العروش”، وغيرها من التحف السينمائية التي جعلت من المدينة استوديو مفتوحا تحت شمس الأطلس.
ولا يقتصر سحر ورزازات على فضائها السينمائي فقط، بل يمتد إلى معالمها التاريخية الفريدة، حيث تحولت قصباتها الشهيرة مثل “آيت بن حدو”، المصنفة تراثا عالميا من قبل “اليونسكو” منذ 1987، و”تاوريرت” و”أمريديل”، إلى متاحف حية تسرد بفخر روائع العمارة المغربية في أزمنة غابرة.
وعززت المدينة من إشعاعها الدولي في 2023، بإبرامها تحالفا إستراتيجيا مع لوس أنجلوس الأمريكية، في إطار توأمة ترسخ موقعها جسرا ثقافيا بين ضفتي الأطلسي، وعاصمة لصناعة الصورة والخيال في قلب القارة الإفريقية.
هكذا تمضي ورزازات بثبات على درب التحول إلى عاصمة السينما بلا منازع، مستثمرة رصيدها الحضاري وثراءها الطبيعي، لتظل فضاء تتلاقى فيه الأسطورة مع الواقع، ويصنع فيه الحلم على وقع عدسات الكاميرا وأضواء الإبداع.
التدبير المعطوب
تعيش ورزازات منذ أشهر على وقع تصعيد سياسي وقضائي غير مسبوق، كشف عن هشاشة المشهد المحلي، وفضح أعطاب التدبير الجماعي، بعد أن انزلقت المؤسسات المنتخبة إلى دوامة من القرارات المتلاحقة، والطعون المتبادلة بين الأغلبية والمعارضة، في مشهد يعكس حالة احتقان غير معهودة في المدينة الهادئة تاريخيا.
وتعود شرارة هذا التوتر إلى دجنبر الماضي، حين أسدلت المحكمة الإدارية بمراكش الستار على مرحلة عبد الله حنتي، الرئيس السابق للمجلس الجماعي عن حزب التجمع الوطني للأحرار، رفقة نائبيه عبد الجليل الروماني (عن الحركة الشعبية) وطيب موراض (عن الاتحاد الاشتراكي)، بعد تحميلهم مسؤولية اختلالات مالية وتدبيرية وصفت بالجسيمة.
وزاد من تعقيد الوضع، تورط الرئيس المعزول في قضية تتعلق بإهانة رجال القضاء والإدلاء بتصريحات تمس باستقلال السلطة القضائية، عقب تداول تسجيل صوتي منسوب إليه على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي القضية التي أدين فيها بـ18 شهرا حبسا نافذا، زادت من حدة التوتر السياسي بالمدينة.
ولم تكد ورزازات تلتقط أنفاسها حتى وجدت نفسها أمام مشهد أكثر تعقيدا، بعدما جرت انتخابات جديدة يوم 31 دجنبر 2023، انتهت بوصول سعيد أفروخ، القيادي في حزب الحركة الشعبية، إلى رئاسة المجلس الجماعي، إثر حصوله على 20 صوتا من أصل 28، في جلسة طبعها التوجس والترقب.
إلا أن هذا الفوز سرعان ما تحول إلى بداية فصل جديد من الصراع القضائي، بعد أن بادرت مكونات المعارضة إلى رفع دعوى قضائية أمام المحكمة الإدارية بمراكش، تطعن في شرعية انتخاب أفروخ، مستندة إلى ما وصفته بـ”خروقات إجرائية”، مست جوهر العملية الانتخابية.
وتتمحور أبرز الطعون حول مخالفة ما ينص عليه القانون التنظيمي للجماعات، لا سيما المادة 11، التي تشترط في المترشح لرئاسة المجلس الجماعي أن يكون متصدرا للائحة حزبه خلال الانتخابات الجماعية، وهو الشرط الذي اعتبره الطاعنون غير متحقق في حالة سعيد أفروخ، باعتباره احتل الرتبة الثانية ضمن لائحة الحركة الشعبية، في انتخابات شتنبر 2021.
وفي انتظار أن تبت المحكمة الإدارية بمراكش في الطعون المعروضة أمامها، تبدو ورزازات اليوم أمام مشهد ضبابي مفتوح على كل الاحتمالات، وسط تساؤلات عريضة يطرحها الرأي العام المحلي حول مصير المؤسسات المنتخبة، ومدى قدرة القضاء على تحقيق التوازن بين الشرعية القانونية والإرادة الشعبية، في مدينة باتت تتلمس طريقها وسط حقل ألغام سياسي وقضائي لا ينفك يتسع يوما بعد يوم.
غياب برنامج عمل
اعتمد رئيس جماعة ورزازات الجديد، سعيد أفروخ، مقاربة ميدانية في تدبير شؤون المدينة، مفضلا التركيز على تنفيذ المشاريع التنموية عوض الدخول في سجالات وردود أفعال عبر منصات التواصل الاجتماعي بشأن الانتقادات الموجهة إليه وإلى المجلس الجماعي.
ومنذ توليه رئاسة المجلس، شرع أفروخ في تسريع وتيرة الأشغال لإخراج عدد من المشاريع المتوقفة والمتعثرة إلى حيز التنفيذ، في إطار مقاربة تروم الاستجابة لحاجيات السكان وتجاوز فترات التأخر التي عرفتها مجموعة من الأوراش.
وفي هذا السياق، قامت الجماعة برصد اعتماد مالي إضافي يفوق 10 ملايين درهم، مخصص لتأهيل الأحياء الناقصة التجهيز، إضافة إلى إطلاق سلسلة من الصفقات العمومية التي استهدفت تحسين البنية التحتية، من تبليط الأزقة وتهيئة الأرصفة، إلى تنظيم الساحات العمومية وإعادة تأهيل السوق الأسبوعي، الذي عرف سنوات من التأجيل.
وتندرج هذه التدخلات ضمن رؤية تنموية متكاملة، مدعومة باتفاقية شراكة استراتيجية بقيمة مالية تناهز 80 مليون درهم، وتهدف بالأساس إلى تأهيل الأحياء الناقصة التجهيز، وتعزيز البنية التحتية، وتحسين الخدمات الأساسية لفائدة السكان.
غير أن ما يؤخذ على الجماعة هو افتقارها لبرنامج عمل، رغم أن القانون ينص على ضرورة إعداد هذا البرنامج خلال السنة الأولى من الولاية الانتدابية، إلا أن إخراجه إلى حيز الوجود لم يتم بعد، وهو ما يجعل من الصعب الحديث عن مخطط تنموي في غياب رؤية واضحة وبرنامج عمل محدد الأهداف والآجال.
كما يظل مشروع تثنية الطريق الوطنية رقم 9، التي تمثل الشريان الحيوي الرابط بين ورزازات ومراكش، واحدا من أبرز المشاريع المتعثرة، في وقت يعرف فيه مشروع تثنية الطريق الوطنية رقم 10، المدخل الرئيسي للجهة من جهة أكادير، تباطؤا ملحوظا في التنفيذ، بسبب غياب التمويل ومحدودية التزام مجلس جهة درعة تافيلالت بتنزيل هذا الورش الهام