منبر الجهة8

حمزة سَفو يكتُب: السيكولوجية الإنسانية في رحاب العالم الإفتراضي


قديما كان تقسيم العالم نِصفَين شبه مستحيل، رغم كل الجهود التي بُذِلت من لدن كبار المفكرين والعلماء، والإسقاط النجمي _مثلا وليس حصرا_ كانَ عنصراً مفاجئا في القدم، والحديث عنه يستلزم الحديث عن أشياء تخالف الطبيعة الإنسانية والمنطق عامة، هذا يدل دلالة صريحة على أن الإنسان منذ نشأته الأولى لم يحتويه هذا العالم المادي ولم يكفيه، رغم أنه لم يكتشفه كاملا بعد!

فما السر وراء ولع البشر بالعوالم الميتافيزيقية؟

إن عالم الميتافيزيقا ليس نفسه العالم النفسي، فالأخير يظل جزءاً من الكينونة الواقعية التي تشمل المادة والروح معا، أما الأول فهو الجلاء والانزياح الكامل عن الواقع المُجسَّد في الكون أجمع، لذا يظل بلوغه أمرا شبه مستحيل رغم الجهود الجمة التي استُنفِقت في نفس الصدد.

لكن مع تقدم العلم والتكنولوجيا لم يعد الأمر بتلك الصعوبة البالغة، حيث سعى “السوبرمان” إلى خلق عوالم شبه ميتافيزيقية، جعلت الفرد الإجتماعي ينسجم فيها ويدخل إلى جانب باقي الأفراد عالما شبيها “بالميتا” ألا وهو عالم الأنترنت، فوجودي ووجودك ووجود الأغلبية في نفس الفضاء الإفتراضي _فيسبوك مثلا_ تحكمه قوانين الواقع، لأنه (عالم الأنترنت) إستطاع إقحام الوجود الواقعي في الإفتراض الذي تحكمه الأيقونة والصورة واللغة الخاصة والفيديو وما إلى ذلك، فما دُمنا نعيش العلاقات الإنسانية كالصداقة والحب والأخوة في هذه المواقع، ونتقاسم الأحاسيس والأفكار الواقعية في نفس الفضاء، فإننا لم نتخلص من واقعيتنا بعد، بل أكسبناها صبغةً إفتراضية مُوازية تظل هي الأخرى جزءاً لا يتجزأ من الوجود الإنساني.

ليكون الأمر واضحا، تذكر معي عزيزي القارئ كَم مرة كُنتَ حزينا في الواقع، ودخلتَ موقعا من مواقع التواصل الإجتماعي، فرأيتَ صورةً أو فيديوها أو ربما رسالة اطمئنان من شخص لَم ترَه مُقلتَاك قَطّ، ففرحتَ وعاد ماء وجهك لمكانه، ولندقق أكثر، دعني أسألك سؤالا بسيطا، كم مرة لمحَك فرد من أفراد أسرتك تبتسم لوحدك وأنتَ تنظر للهاتف؟ فهل أنت أحمق أم ماذا؟
إنه عالم الإفتراض الذي ننسجم فيه بكل مقوماتنا الوجودية النفسية و الإجتماعية و السياسية و الثقافية…

هذا الأمر أصبَح بالنسبة إلينا شيئا مُعتادا ومألوفا، لكنه خطير جدا في الآن ذاته، فكم من القلوب كُسِّرَت بسبب شخص لم تره قط، وكم من الإناث انتحرنَ بسبب فضيحة إنتشرت بين أناس واقعيين افتراضيين، وكم من الجرائم الإلكترونية أحدثتها العقول البشرية الخبيثة داخل عوالم الإفتراض، إننا ندخل عالما ليس مخالفا للوجود كما نظن، بل إن وجودنا الحقيقي الذي تحكمه الحدود نفسه تقلص وأصبح كما يدعون “قرية صغيرة” تجد فيها النفس لذة لا مثيل لها، شبيهة بلذة “الأيس كريم” الذي لا نود انقضاءه، لكنه ينقضي في الأخير.

الحديث عن الوجود أجمع بكل أبعاده، حديث عن عالم قُلِّص وقزِّمَ من لدن البشر فلم يعد يساوي إلا جُرعة أنترنت أو جُرعتين، الأخطر هو سيكولوجيتنا، فقيم الحب والكراهية والتسامح والعدوانية، أصبحت قريبة منا أكثر من أي وقت مضى، وأصبحت تُقدم مجانا، أما الشعور الإنساني من خوف وقلق واضطراب نفسي واكتئاب، فلم يعد يستلزم أحداثا وشخصيات واقعية نعيش معها، بل صورة أو كلمة أو فيديو كافيين لإثارته فينا في أية لحظة، أما الميتافيرس القادمة بقوة، فسيظل الكلام عنها مسهب وقاسي، ما دامت المادة والروح معا ستنسجمان فيها!

مقالات ذات صلة

Back to top button
error: Content is protected !!

Adblock Detected

يجب عليك تعطيل مانع الإعلانات - Ad Block أو عدم إغلاق الإعلان بسرعة حتى يمكنك الإطلاع على المحتوى