طوفان الأقصى: أسباب النِّزالْ.. حتميات المآلْ.. وواجبات الحالْ.. !

د. الحبيب الشوباني
استهلال (1/4)
I am Jewish and I say that humanity ceased to exist when Israel was born (Dustin Hoffman/American producer and director)
أنا يهودي وأقول بأن البشرية قد توقفت عن الوجود مع ميلاد إسرائيل (دوستان هوفمان/منتج ومخرج سينمائي أمريكي)
Je suis juif et je dis que l’humanité a cessé d’exister à la naissance d’Israël (Dustin Hoffman/producteur et réalisateur américain)
من غايات إرسال الطوفان على من استكمل شروط استحقاقه: الأمر بعذاب الإغراقْ.. !
ومن آيات التمحيص لمن خالف نهج مستحقيه من الناس : المسارعة للأخذ بأسباب النجاة !
حقا، إنه لأمر عجيب أن تُلهَمَ المقاومة الفلسطينية المؤمنة الجسورة لاختيار مفردة “الطوفان” عنوانا مُوشَّحا بشموخ الأقصى وقدسيته، لتنحَت بِمَوْجِه المتلاطم على صخر الاستعمار الصهيوني الأصم ملحمة “طوفان الأقصى” لكفاح مجيد اندلعت فصوله ببركانِ غضبٍ مُتبِّرٍ لهيبة جيشٍ زعموا أنه لا يقهر، وما تزال حِممُه هادرة بمشاهد خزي عالمي يسوِّد وجوه النازيين الجدد، وستظل طوفانا أسطوريا يتوارث حكايات مجده المقاومون من كل جنس وفي كل جيل، يستمدون من عبقريته إرادة كسر الظلم وقهره إلى قيام الساعة.. مهما كانت جسامة التضحيات !
لذلك وجب القول إنه لا نجاة من طوفان الأقصى إلا أن يتحَيَّز كل ذي ضمير مؤمن يقظ إلى حيث يسلك بروحه وجماعته ووطنه والبشرية مسالك الحذر نحو سفينة النجاة، وكأن نوحا انبعث من أهوال هذا الكرب العظيم يخاطب كل فرد من نسله في البشرية أَنْ “يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين” ! فسُنَّة الله في الإهلاك بالطوفان قضت أن لا عاصم من أمره إلا من رحم.. وسنته في النجاة من عقابه قضت أنها ناجزة لمن أخذ بالأسباب ولم ينخدع بجبال الوهم تعصمه من الماء!
إن طوفان الأقصى قطعا قدَرٌ إلهيٌّ.. في بعثه وتفاصيله، تنزّل على يد جيل من “أصحاب الأخدود“، في غزة المحاصرة برا وبحرا وجوا ورَحِماً، وكأن وَعدُ الله “بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد” تحقق فيهم، فكانوا وهم ينبعثون بإعداد خارق، وعزم صادق، وتنفيذ صاعق، ستارا لهذا القدر السماوي الذي سيكثر غرقاه بلا ريب !..كما كانوا بهذا التصميم الملحمي الأسطوري على تفجير شلالات الدماء من شرايينهم وشرايين أطفالهم ونسائهم ومرضاهم وجرحاهم، شهداءً وشهودا على أن البشرية المستضعفة على موعد مع الاغتسال الكبير من أدران الخضوع لاستكبار عالمي آن أوان انكساره واندحاره بوعد الاستخلاف الرباني: “ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين” !
ثم إن طوفان الأقصى إذْ مارَ ويمورُ من حيث لم يحتسب خصوم الحق الفلسطيني الأزلي في الانعتاق من عبوديات الاستعمار، أغرقَ في لظى مَوْجه الهادر هيبة صُناع آخر تقليعات تكنولوجيا رصد الأنفاس وإحصاء الحركات؛ وحطم جبروت المدجَّجين بأعتى أسلحة الفتك والقتل النازي للأبرياء؛ وهشَّم أمْن المتمترسين خلف جُدُرٍ فولاذية يمنعهم جُبنهم من القتال الالتحامي خارج أسوارها المصفَّحة؛ وهشَّم ثقة قطعان المستوطنين المنتشين بالأمان الكاذب في وطن يتفننون في سرقته من أهله كل يوم؛ ونكَّس أعلام الزَّعم البغِيِّ لغربٍ مارقٍ غارقٍ في تناقضات عُهرٍ حقوقي وديمقراطي وحداثي عنصري مُخزي.. !
لقد دمر طوفان الأقصى وكَنَسَ في زحفه كثيرا مما يعلم الناس.. وطمَر في ظلمات الخسف كثيرا مما لا يعلمون ! وما من ريب أن ما كان يحاك في الظلام ضد شعب فلسطين، وأمة العرب والمسلمين، وضد بقايا البشرية الرحيمة.. لمَكْرٌ تزول منه الجبال ! أما الفلسطينيون فقد كانوا على موعد مع نكبة تهجير جديد تُخلي القطاع من ساكنته؛ وكان العرب على وشك أن يرفع اليهود رسميا – وقد فرغوا من سرقة كل فلسطين – لائحة مطالبهم باسترجاع الحقوق التاريخية في خيبر، وفي المدينة المنورة، وفي كل وطن فتحوا أو سيفتحون فيه “مكتب استئصال ديبلوماسي“.. ! كما كان المسلمون قاب قوسين أو أدنى، وعلى مسافة صِفرية، من تحقُّق ما يحلم به محتلو المسجد الأقصى: توسيع لائحة الاحتلال المباشر للمقدسات، باحتلال غير مباشر لما تبقى منها ! ودخول شركات صهيونية علانية ضمن لائحة مقدمي الخدمات للمعتمرين والحجاج في بلاد الحرمين الطاهرين.. ! وأما ما تبقى من البشرية الرحيمة المفجوعة بفجور الجيش المقهور، فهي اليوم على موعد مع إنقاذ ما تستميت للدفاع عنه من دعاوى الحقوق والحريات في المحافل الأممية، وهي ترى كل هذا الخراب النازي يتكئ على قبح “قانون الفيتو الهمجي”، لا على قانون الحق الذي تواطأ الكثير من سَدَنَةِ حقوق الإنسان على خذلانه.. فيما يعجز الكثير منهم عن نصرته !
ولقد دمر طوفان الأقصى أيضا في طريق موجه الهادر صورة ذلك “النموذج الثقافي الغربي المتحضر“، المتسلل خِلسة نحو العقول والأخلاق والأذواق في بلاد المسلمين وفي العالم، تحت شعارات الحداثة، والتقدم، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمرأة، والطفل، والشيخ، والمعاق، واللاجئ، والمريض، والجريح، والأسير.. !! وغير ذلك من قائمة البضائع الثقافية الكاسدة الفاسدة التي تروجها مناهج تعليم، وبرامج إعلام وتسويق ثقافي، كلاهما نسخ رديئة لحضارة الرجل الأبيض الامبريالي المريض بعنصريته وفساد ضميره؛ وهو بذلك (أي الطوفان) إنما يكون قد فضح في طريقه أيضا الوجه الحقيقي لحضارة غرب صهيو-مسيحي عنصري يحمل في جيناته صِبغيات chromosomes جرائم الأبارتايد، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية، والقتل على الهوية وعلى الاختلاف الحضاري؛ كما أنه جرّده من مساحيقه وتركه عاري السوأة منكشف العورة أمام العالم الذي يتابع بالبث الحي مشاهد التوحش الصهيوني الغبي، وهو يغرق كل لحظة في بحر دماء وأشلاء المدنيين، وتنخسف به الأرض مسعورا تحت أنقاض غزة الشامخة، وتنهد قواه تحت ضربات مقاومة أسطورية تفتك بوحش منتقم أعمى، يترنح فاشلا ذليلا كما لم يحدث من قبل، منذ اصطناع هذا الكيان-العار على تاريخ الإنسانية.. !
أجل.. من يدري كم حطم هذا الطوفان وكم جرف وما زال يجرف في مده الهادر من باطل زهوق؟ من يدري ما الذي كان يحاك من مساومات وصفقات وضغوط وترهيب في جنح الظلام.. لطي ملف مظلومية شعب فلسطين؟ ومن يدري ما الذي كان أحبار القوم من سلالة “رجسة الخراب” يمنون النفس به، وهم الماسكون في عواصم القرار الأممي الذليل بسطوة المال والإعلام، وبخناق كثير ممن يحكمون الأوطان طوعا أو كرها بأوامرهم وبإرهابهم؟ من يدري؟ ..
لكن الذي ندريه، وبات العالم كله اليوم يدريه، أن القدَر عاجَلَهم جميعا من حيث لم يحتسبوا بطائف الطوفان الصاعق في 7 أكتوبر.. فطاف على أحلامهم وما يمكرون.. فأصبحت كالصريم !.. ومن عجب أنهم لم يكونوا نائمين، بل أيقاظا ينظرون.. وبصرهم حديد.. !..قلنا ونحن نتأمل المشهد واثقين وموقنين بانتصار داوود على جالوت : بمثل هذا يعرف الله ! …………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..(يتبع (2/4): في وعي جذور النزال).