الرشيديةثقافة وفن

محمد السلمي يكتب: التراث الثقافي والفن التشكيلي…قراءة في تجربة الفنان سعيد نجيمة

محمد السلـــــمي

التراث الثقافي، سواء المادي أو اللامادي، يُمثل هوية الشعوب وجذورها التي تربطها بماضيها. ومع التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم، يصبح الحفاظ على هذا التراث ضرورة ملحة. من هذا المنطلق، نجد أن الفن التشكيلي لا يقتصر على التعبير الجمالي، بل يتجاوز ذلك ليصبح وسيلة توثيق وتأريخ، كما يتجلى في تجربة الفنان سعيد نجيمة. من خلال لوحاته، يسعى نجيمة إلى مزج التراث والحداثة، مع التركيز على مناطق الجنوب الشرقي المغربي وما تزخر به من معمار وطبيعة وتقاليد.

الفن التشكيلي كنافذة على التراث

الفن التشكيلي يُعتبر أداة قادرة على إعادة تفسير الماضي وإبراز جوانب قد تغيب عن السرد التقليدي للتاريخ. تجربة سعيد نجيمة تبرز هذه الإمكانية بشكل واضح؛ حيث يعيد عبر لوحاته بناء صور القصور والقصبات والألوان الترابية التي تُميز الجنوب الشرقي المغربي. اختيار هذه العناصر ليس مجرد صدفة، بل هو تعبير عن إدراك عميق بأهمية توثيق معالم تُواجه خطر الاندثار.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: إلى أي مدى يستطيع الفن التشكيلي أن يُنقذ التراث من النسيان؟ نجيمة في هذا السياق يُحاول تجاوز حدود الإبداع الفردي ليُقدم رسائل تتعلق بضرورة الوعي الجماعي تجاه التراث. لوحاته ليست مجرد مشاهد بصرية، بل تحمل بُعدًا فلسفيًا يُثير تساؤلات حول علاقتنا بالزمن والمكان.

الألوان الطبيعية والطين: بين المادة والرمز

تُعد الألوان الطبيعية والطين أحد العناصر الأكثر لفتًا للنظر في أعمال سعيد نجيمة. الألوان المستخلصة من الطبيعة، كالترابية والرمادية، تحمل في طياتها إحالة إلى البيئة المحلية، مما يخلق ارتباطًا حسيًا بين العمل الفني والمكان الذي يُمثل مصدر إلهامه.

الطين، من جهة أخرى، يتجاوز كونه مجرد مادة خام ليصبح رمزًا للمقاومة والتاريخ. فهو يشكل أساس بناء القصور في الجنوب الشرقي، ويُعيد نجيمة توظيفه في لوحاته ليمنحها عمقًا دلاليًا. هذه التقنية تُحيلنا إلى فكرة محورية: كيف يمكن أن تصبح المادة وسيلة لإحياء الذاكرة؟ في أعماله، يتحول الطين إلى لغة بصرية تُعبر عن استمرارية العلاقة بين الماضي والحاضر، حيث يبدو وكأن كل لوحة هي امتداد لصرخة القصبات المهملة.

المعمار كذاكرة بصرية

تتجلى أهمية المعمار في لوحات سعيد نجيمة باعتباره عنصرًا مركزيًا في توثيق التراث المادي. القصور والقصبات التي يرسمها ليست مجرد نماذج معمارية، بل هي مرآة لعلاقة الإنسان بالبيئة وللتاريخ الاجتماعي والثقافي للمنطقة.

هنا يظهر سؤال نقدي مهم: هل يكتفي سعيد نجيمة بتوثيق الواقع، أم أنه يُعيد تشكيله وفق رؤيته الشخصية؟ من خلال التمعن في أعماله، يبدو واضحًا أنه لا يهدف إلى تقديم صور فوتوغرافية للمعمار، بل يُعيد صياغة هذه العناصر بأسلوب فني يجعلها تروي قصصًا عن الجمال المفقود والأصالة المهددة. التفاصيل الدقيقة، كالنوافذ المقوسة والزخارف الطينية، تُظهر اهتمامًا استثنائيًا بإبراز جماليات كانت تُعتبر عادية أو مألوفة، لكنها مع الزمن أصبحت تستحق الاحتفاء.

بين التراث والحداثة: هل تنجح التجربة؟

رغم أهمية تجربة سعيد نجيمة، فإنها تُثير بعض التساؤلات النقدية. هل يمكن أن يُنظر إلى هذه التجربة كحركة مقاومة ثقافية تُعيد الاعتبار للتراث، أم أنها تبقى حبيسة القاعات الفنية والنخب الثقافية؟ الفن وحده قد لا يكفي لإنقاذ التراث، لكنه ينجح في إثارة النقاشات وتحفيز الوعي، وهو ما تُحققه أعمال نجيمة بامتياز.

من جهة أخرى، هناك تساؤل حول مدى قدرة هذه الأعمال على الوصول إلى الجمهور المحلي الذي يمثل الحاضن الطبيعي لهذا التراث. إذا كانت الرسالة موجهة فقط للنخبة الثقافية أو الجمهور العالمي، فقد تفقد التجربة جزءًا من جوهرها المتمثل في إعادة إحياء علاقة المجتمع بتراثه.

تجربة تستحق التأمل

في النهاية، تُقدم تجربة سعيد نجيمة نموذجًا فريدًا في توثيق التراث من خلال الفن التشكيلي. استخدامه للطين والألوان الطبيعية يُظهر ارتباطه العميق بالبيئة، في حين أن تركيزه على معمار الجنوب الشرقي يعكس وعيًا ثقافيًا بجماليات هذا التراث وأهميته.

مع ذلك، تظل التحديات قائمة، سواء فيما يتعلق بتقدير الجمهور المحلي لهذه الجهود، أو في ضمان استمرارية العلاقة بين الفن والتراث كوسيلة لحفظ الهوية الثقافية. تجربة نجيمة تُذكرنا بأن الفن لا يكتفي بأن يكون مرآةً للماضي، بل يمكنه أن يكون أداة لصناعة المستقبل، بشرط أن يبقى متجذرًا في الوعي الجماعي ومتفاعلًا مع قضايا المجتمع.

مقالات ذات صلة

Back to top button
error: Content is protected !!

Adblock Detected

يجب عليك تعطيل مانع الإعلانات - Ad Block أو عدم إغلاق الإعلان بسرعة حتى يمكنك الإطلاع على المحتوى